سرد قصصي
زهور بريئة
بقلم
أحمد عبد اللطيف النجار
كاتب عربي
&& ليست قصة ،،، سرد قصصي يفوق القصة &&
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من رحم المعاناة يولد الأمل ،ومن خبرة الألم والإبتلاء نعرف جوانب مثيرة من حياتنا لم نكن ندركها من قبل ،والقلوب الحكيمة فقط هى التى تستطيع أن تتأقلم مع واقعها المُر مهما كان مُراً !
من هذه القلوب الحكيمة أعرض عليكم اليوم قلب حكيم وبرىء ، أنتج لنا بحكمته مئات بل آلاف القلوب الحكيمة والبريئة، إنه قلب رقية تلك المرأة الحكيمة
التى جاءتنى وعلى وجهها هالات النور والإيمان والحكمة قائلة :
أنا سيدة تزوجت منذ 133عاماً من شوكت ،وهو شاب من أقاربى يتميز بالطيبة وحسن الخلق ، عشنا حياتنا هادئة سعيدة موفقة ورزقنا المولى بعد عام من الزواج بطفلتنا الرائعة آية وكانت طفلة رائعة آية فى الجمال بحق، وكان أجمل
ما فيها شعرها الذهبى الناعم المسترسل الطويل وعيناها الواسعتان الجميلتان.
كانت طفلتى آية جميلة وذكية حتى أنها بدأت فى نطق بعض الكلمات وهى فــى شهرها العاشر !
وكنت حين أحملها على كتفى وأسير بها فى الطريق العام أسمــــــــع تعليقات الإعجاب بشعرها الذهبى ،حتى أقسم أحدهم ذات مرة أنه يستحيل أن يكون هذا
الشعر الطبيعى لطفلة وليدة وإنما هو باروكة مبتكرة !
هكذا مضت حياتنا ناعمة سعيدة ،تملؤها طفلتى بهجة وسعــــــــــادة بنشاطها وحركتها الدائمة ،إلى أن جاء يوم وجدتها فيه تصرخ فجأة وتشكو لى من شىء
يؤلمها فى رأسها ! فظننت أن نحلة قد قرصتها فى رأسها وتفحصتها فلم أجــــد
شيئاً وإنتهى الألم بعد دقيقتين ،فلم أعر الأمر إهتماماً ،لكنه تكرر مرة أخــــرى
وبنفس الطريقة ،وبدأ القلق يتسرب إلى قلبى عندما لاحظت أنها حين تجــــرى
وترغب فى أن تستدير لتعود من حيث جاءت تقع فجأة على الأرض !
فذهبت إلى الطبيب فطمأننى ،وعدنا إلى حياتنا العادية لكن مرات وقوعها على
الأرض كثرت وأصبح إتزان حركتها ضعيفاً ! فقررت أنا وزوجى شوكـــت أن
نحملها إلى القاهرة لنعرضها على كبار الأطباء ،وما أن خطونا هذه الخطـــوة حتى إنفتحت أمامنا أبواب الجحيم ،فقد رحت أطوف بها على أطباء الأطفــــــال
وحالتها تتدهور سريعاً حتى فقدت القدرة على المشى نهائياً فى أقل من عشرين
يوماً ! ونحن حائرون لا نعرف ماذا يجرى لأبنتا المسكينة ،ولا ما هو مرضـها
ثم نصحنا أحد الأطباء الشبان بعرضها على جراح للمخ والأعصاب ففعلنا وقرر
الطبيب الكبير عمل أشعة مقطعية على المخ فوراً ،وظهرت النتيجة منـــــــــذرة بالخطر ،فقررالجراح إجراء جراحة عاجلة لها حتى لا تفقد القدرة على الإبصار بعد أن أصيبت بالحول الشديد فى عينيها الجميلتين ، ووجدتنى وزوجى شوكت نسلّم بإرادة الله ونأخذ بالأسباب ولا نقصّر فى علاج ابنتنا الوحيدة ،ثم نــــترك الأمر بعد ذلك لله يتصرف فيه كيف يشاء.
وأصر شوكت أن تـُجرى الجراحة فى مستشفى خاص رغم ضيق أحــــــــوالنا المالية ،وأدخلنا آية المستشفى ،وبدأ الإعداد للجراحة ،وجاء حلاّق المستشفى
ليقص شعر آية من جذوره ثم يحمله فى يده ويقدمه لزوجى ،فإذا بـــــــزوجى الصامد الصابر ينهار ويبكى بشدة وهو يرى شعر ابنته هكذا!
وبدأت أول مرحلة بإجراء الأشعة على المخ فأثبتت وجود الزائر اللــــــعين فى المخيخ ،وبعد أسبوع بدأت الخطوة الثانية ثم الثالثة لإسئصال الوحـــــــش من رأسها ،وإستغرقت العملية ساعتين لم تتوقف شفتاى خلالهما عن الإبتهال إلى
الله جل شأنه أن يتولى ابنتى برحمته ،ولم تجف خلالهما دموعى وبعدعــــذاب طويل انتهت الجراحة وقام الجراح بإستئصال ورم فى حجم البرتقالة من مـــخ ابنتى التى لم تكمل العامين وأربعة أشهر من عمرها ،وتعجبت كثيراً كيـــف ولد هذا الوحش ونما فى رأس ابنتى الصغيرة آية ؟ كيف لم أشعر به وهو يهاجـــــم
ابنتى البريئة؟!
وخرجت من المستشفى بعد شهر ونصف أحمل طفلة كالخرقة البالية لا تستطيع
الجلوس أو التقلب فى الفراش !!
وإستأجرنا شقة نقيم بها بالقاهرة بالقرب من معهد العلاج بالإشعاع ،وبـــــدأت أذهب إليه يومياً لعمل جلسات الإشعاع للقضاء على باقى الخلايا المتوحشة فى المخ ! واستمر العلاج أربعة شهور طويلة بدأخلالها شعر آية الذهبى ينمو مرة
أخرى ،ثم فوجئنا به يسقط مرة أخرى دفعة واحدة ،فكنت أغطى رأســــها وأنا
أحملها للعلاج ،فإذا سقط الغطاء عن رأسها الأجرد صدفة رأيت نظرات الإشفاق
فى عيون من حولى بعد أن كنت أرى فيها نظرات الإعجاب !
وشيئاً فشيئاً بدأت آية تتقلب فى الفراش ،ثم بدأت تجلس بغير مساعدة من أحد
ثم بدأت تحبو ثم تسير مستندة على المقاعد ،لكن لا تقوى على الإمساك بكوب ماء لتشرب منها بسبب إرتعاش يديها وكأنها عجوز فى الثمانين !!
وعدنا إلى مدينتنا وقلبى ينفطر حسرة على ابنتى ولكنى متمسكة بالأمـــــل فى رحمة الله ،وواظبنا على عرضها على الطبيب مرة كل شهر ،ومع استمـــــرار العلاج بدأت آية تسير وحدها مع تعرضها لبعض الإنتكاسات الصحية العارضة
لدرجة أنها تفقد القدرة على المشى ،ثم تعود وتتحسن مرة أخرى بعد أن يـــبدأ الطبيب علاجها بدواء معين ، وتمر الأيام والسنون وكنت خلال هذه الفــــــترة أرفض فكرة الإنجاب مرة أخرى حتى لايشغلنى المولود الجديد عن العـــــــناية بطفلتى المسكينة آية ،ولكن بعد فترة من إستقرار حالتها قررت وزوجى شوكت
بدافع من حبنا لإبنتنا أن يكون لنا طفل آخر حتى لا تنشىء وحيدة فى الحياة ،و
حملت وشاءت إرادة الله أن يرزقنا بطفلنا عابد وكان طفلاً رائعاً ذكّرنى بجــمال
طفلتى آية فى عامها الأول قبل أن تعتصرها الآلام !!
ومرت الأيم سريعاً سريعاً،وبلغت آية سن دخول المدرسة بعد أن مضى عـــــلى علاجها بالإشعاع أربعة سنوات ما زالت خلالها تعانى من نوبات الصـــــــــداع وإرتفاع الحرارة والقىء وما زال إتزانها ضعيفاً !
ونصحنى الجميع بعدم إرسالها إلى المدرسة والإكتفاء بتعليمها فى المــــنزل !
ولكنى قررت خوض المستحيل وألحقت آية بالمدرسة رغم إعتراض الجــــميع،
وتسكت بذلك بعناد شديد وقدمنا أوراقها للمدرسة ،وجاء يوم الدراســــــــــة
وأمسكت بيد ابنتى الضعيفة المهتزة وهى تمشى بخطواتها البطيئة الضــــعيفة!
وقابلت معلمتها وشرحت لها ظروفها الصحية ،وطلبت منها عدم الســـماح لها بالهبوط إلى فناء المدرسة خلال الفسحة حتى لاتتعرض للمتاعب الصــحـــية ،
وتركتها فى المدرسة وغادرتها باكية ،وعندما إقترب موعد الفسحة هتـــــــف هاتف بى أن أذهب فوراً للإطمئنان عليها لعل وعسى أن تكون المُعلّمة قــــــــد إنشغلت عنها فى زحام العمل ، فهرولت إلى المدرسة وجرس الفسحة مـــا زال
يدّوى فيها ،وصعدت إلى فصل ابنتى فوجدتها يا حبة القلب المُعّذب تتحامل على
نفسها وتقف فى طابور التلاميذ وهى تتمايل ضعفاً إستعداداً للنزول إلى الفناء ،
ولم أتمالك دموعى وأنا أراها تهتز فى الطابور وتهفو روحها للعب مع أقرانها
من التلاميذ! والحمدلله مرت فترة الفسحة بسلام ،وعاد التلاميذ للفصل فغادرته
لأعود إليها بعد إنتهاء اليوم الدراسى ،واستامر الحال هكذا أياماً طويلة أذهـــب
بها للمدرسة فى الصباح ثم أعود إليها فى الفسحة لأجدها فى الفصل وحــــيدة!
إلى أن حدث شىء عجيب لم أستطع تفسيره ولا فهمه فى البداية ،فذات يــــوم عدت إليها فى الفسحة فوجدتها جالسة فى الفصل كالمعتاد ولكنها ليست وحيدة
وإنما تجلس معها تلميذات وتلاميذ يتحادثون ويتضاحكون ،وعجبت كيف حـرم
هؤلاء الأطفال أنفسهم من فترة الفسحة واللعب فى الفناء ليجلسوا مع طفــــلة صغيرة مريضة ؟!
ولم يدم تعجبى طويلاً ،فقد عرفت أنها قلوب الأطفال البريئة التى تحس أحياناً بما يحس به الكبار ! فقد ادركوا بمشاعرهم الصافية العذبة أنها غير قادرة على النزول إلى فناء المدرسة فبدأوا يجلسون معها فى الفصل ويتناوبون البــــــقاء معها خلال الفسحة ،وأصبح لها أصدقاء يحبونها ويؤثرون مجالستها عـــــــلى اللعب فى الفناء ،وتكرر ذلك المشهد الرائع يوماً بعد يوم ! حتى لم أعـــــــد فى حاجة للذهاب إليها فى الفسحة بعد أن خّفف عنى هذا العبء أطفال صـــــــــغار غرس الله فى قلوبهم البريئة الرحمة !!
واطمأن قلبى عليها ،ومرت الأعوام ومضت آية فى دراستها عام بعد عــــــــام ،تقدمت الطفلة التى عاشت الأهوال وعمرها عامان فقط حتى بلغت الصـــــــف السادس الإبتدائى بفضل الله ومنته.
والله يا أخى اننى حين أنظر إلى كراستها وأرى خطها الردىء أشكر الله أنــــاء الليل وأطراف النهار أن جاء اليوم الذى استطاعت فيه أن تمسك بالقلم وتكـــتب
بعد أن كانت لاتقوى على الإمساك بكوب الماء ! وحين أنظر إلى خطــــــــواتها البطيئة أشكر الله من أعماق قلبى أن استطاعت المشى والحركة !
وحين أنظر إليها وهى تتحدث وتلعب مع أخيها عابد الذى بلغ من العمر ســــت سنوات أحمد الله أنها لم تعد وحيدة فى الحياة! أما حين تمسك بالتليفون تتــصل بصديقاتها أوتتلقى مكالماتهن،تنذرف الدموع من عينى فرحاً أن أصبحت لـــها حياة إجتماعية وصديقات تحبهن ويحببنها ، والحمدلله أنها الآن فى تحّسُــــن
مستمر ،وبعد إنتهاء علاجها أجرينا لها الأشعة مرتين فأثبتت خلوها من الزائر اللعين بحمدالله،وطبيبها نفسه يقول لنا أن حالة ابنتنا آية من أحسن الــــنتائج على مستوى العالم !!
وأنا وزوجى شوكت سعيدان وراضيان بقضاء الله وقدره ،وعلمنا بخبرة الألــم
وتجربة الإبتلاء أن من يملك كنوز الأرض لا يمكن أن يحّس بحالة الرضا الــتى نشعر بها والحمد لله من قبل ومن بعد والحمد لله فى الأول وفى الآخر .
&( وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظٍ عظيم ) صدق الله العـــظيم .
صدقت ربى فيما قلت وفيما بلّغت عبادك المؤمنين الصابرين ،وأنت منهم أختاه
أنت صاحبة القلب الحكيم ،فقد تعاملتِ مع محنتكِ بإيمان عميق بـــــالله وإدراك واع ٍ وراق ٍ لحقائق الحياة ،لذلك فقد أعجبنى كثيراً قرارك الحكيم بإلحاق ابنتكِ
آية بالمدرسة لكى تواجه الحياة بدلاً من أن تظل حبيسة الجدران الصمـــــــــــاء ،شديدة التعلق بكِ والإعتماد عليك ، وأعجبنى أيضاً إيمانكما القوى أنتِ وزوجك
بقراركما الحكيم بالإنجاب مرة أخرى رغم المخاطرة والمجازفة والظـــــــنون !
لكنه الإيمان الحقيقى عندما يشع نوره علينا يجعلنا فى ثقة من رحمة الله ولطفه
لقد آثرتما دخول الإمتحان مرة أخرى لكى تقدما لإبنتكما أخاً تتوكـــأ عليــــــــــه ويتساندان معاً فى رحلة الحياة الطويلة ، أما قمة إعجابى وإنبهارى وســرورى
فهى روح الأمل التى تعاملتما بها مع المحنة منذ البداية ،وروح الرضا بقضاء الله وقدره التى رسمت خطاكما وشدت من أزركما ودفعتكما للأخذ بالأسبــــــاب
وإتخاذ كافة الوسائل لدفع الخطر عن ابنتكما الحبيبة ،فكلل الله جهودكـــــــــــما بالنجاح وأسعدكما بحياتكما وطفليكما الجميلين آيـــــــــــــة وعـــــــــابد.
أما أكثر ما أثار شجونى ودموعى فى محنتك فهو هذا المشهد النادر الفريد حين
دخلتِ الفصل فوجدت الأطفال الصغار قد أحاطوا آيــــة بمشاعرهم الملائـــكية
البريئة ، فكانوا من حيث لا يدرون السبب فى حل إحدى مشاكلك وضربوا أروع
مثال لما ينبغى أن يكون عليه الكبار فى أوقات المحن والإبتلاءات !!
سبحانك ربى ، كيف أدرك هؤلاء الصغار بأحاسيسهم البريئة حاجة ابنتكِ إلــــى
الصحبة فضحوا بفسحتهم وألعابهم؟!
أليس هذا التصرف البسيط منهم ظلاً آخر من ظلال الرحمة التى تولى بــــــــها الرحمن آية ليخفف عنها آلامها ؟ أليس فى شعور الرضا والسعادة الذى يغمر
روحك وأنت تنظرين إلى طفليك آية وعابد فترين كنوز الأرض لا تساوى لحظة
صفاء كهذه اللحظة، ظل آخر من ظلال الرحمن يؤتيه الله من يصبر على المحن
والشدائد والإبتلاءات ؟!
لقد تعلمت كثيراً من محنتك يا رقية ، وأرجو أن يتـــــــــعلم الآخـــــــــــــــــــــــــــرين !!
تعلمت الأمـــــــــــــــــــــــــــــــــل فى رحمة الله
تعلمت اليقيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن فى الله
تعلمت الرضــــــــــــــــــا بقضــــــــــــــــــاء الله
تعلمت التوكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل على الله
تعلمت عدم اليأس من رحمــــــــــــــــــــــــة الله
تعلمت ، تعلمت ، تعلمت وما زلت أتـــــعلم !
أحمد عبد اللطيف النجار
كاتب عربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق