زهرة الصحراء 7.
عاد مرة أخرى إلى تيه الصحراء اللامتناهية. هجر الدار بعد أن وجد نفسه وحيداً بين مقبرتين. فهو لا يفزع من شىء بقدر ما يفزع من الموت.. لو كان الموت فناء تام ثم لا شىء بعد ذلك لكان ذلك رحمة كل الرحمة، لسعى إليه بكل رضا و سعادة، المشكلة بل المعضلة الكبرى فى مواجهة الذات الإلهية. كيف سيواجهه ربه وحيداً و هو مثقل بالذنوب محاط بأرواح ضحاياه يشهدون عليه؟ حتى هذا الجسد اللعين المفعم بالنشوة سيشهد عليه، سيتعلل بقلبه الجريح المريض.. بيد أن القلب سيتنكر له و يشهد عليه.. لقد عوضك الله بـ "سلمى" فلم تحافظ على النعمة.. أى إنسان هذا الذى يستطيع مواجهة رب العالمين؟!... إذا كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يبكى و يرتجف هلعاً من هذه المواجة فكيف سيكون الحال بالنسبة لإنسان مثلى؟!...
فكرة الموت تسيطر عليه منذ الأزل، منذ أن كان طفلاً صغيراً. يقولون أن الموت هو البوابة الأولى للفلسفة، و هو أيضاً الدافع الأول الذى يدفع المبدع ليجود و يبدع محاولاً قهر هذا الوحش البغيض. بعد تجربته مع التمثال الرومانى "رشا" راودته كثيراً فكرة الانتحار، أصبح يبحث عن أية أفكار سوداوية تبرره و تحلله، إنه لجوء إلى الله الرحمن الرحيم.
فر هاربا من "رشا" و من الموت إلى القاهرة، إلى أن تعرف على "سلمى" التى ما أن علمت بهذه الهواجس المخيفة حتى أصبحت لا تفارقه، تبثه حب الحياة، تدفعه دفعاً إلى الإبداع و النجاح ثم هجرها فى النهاية بعد أن شاخت و كثرت مشاكلها هى و ابنها المدمن.
جال ببصره فى المكان، لا شىء غير الرمال الصفراء، الأرض مشققة، قدماه متورمتان، يلهث وراء أى نقطة ماء أو أى شىء يؤكل، إلى أن رأى شجرة صبار ضخمة. يعرف أن هذا النبات التعيس لا يخزن بداخله إلا عصاره مرة، لكنه ماء على الأقل. جرح جذع الصبار بحجرة فسالت العصارة، مسحها بإصبعه و لعقها، انتفض كل كيانه للمرارة، لا يوجد شىء غير ذلك المر، فراح يلعق منها.
ظل يتابع السراب لمدة يومين، فى كل مرة يحدوه الأمل فى المياه، الله قادر على كل شىء، قادر أن يفجر له المياه يرتوى بها إلى أن يجد حلاً لهذا التيه الذى يبدو أبدياً.
وجد نفسه أمام جب عميق فى جوف الأرض. بدا له المكان مناسباً ليبات فيه. هبط على المنحدر الوعر بحرص شديد و هو يتعثر فى الصخور. بدا المشهد من أسفل مهولاً، الجبل يحيطه من كل جانب كأن الأرض قد غارت به إلى عمق لا يقل عن ثلاثين متراً، لا يوجد فوقه سوى السماء الصافية. فى بطن الجبل توجد شقوق كبيرة مخيفه لا أحد يعرف ماذا تأوى بداخلها. فى أحد الأركان تهبط الأرض فى انحدار شديد، تقدم بقدمين مرتعشتين حتى وجد الماء.. خر ساجداً شكرا لله، شرب بنهم حتى ارتوى، اغتسل فى سعادة و هو يقهقه وحده كالمجنون، ثم فتح حقيبته الوحيدة التى لا يوجد بداخلها سوى المصحف. إنه الشىء الوحيد الذى أخذه من أرض الوفاء، و راح يقرأ بصوت مرتعش و هو يتأمل الجبل الرهيب من وقت لآخر فى رعب.
هبط الظلام كثيفاً، الهلع ينهش قلبه، هرب النوم إلى غير رجعه. من يدرى ماذا سيحدث لو نام هنا، قد يموت و تخرج الذئاب لالتهام جثته دون أن يشعر به أحد على سطح هذه الأرض التى بدت له شاسعه بعد أن كان يراها صغيرة جداً أمام الطائرات النفاثه و الصواريخ المنطلقة تشق عنان الفضاء. سلم أمره الله و هو يقول فى نفسه: "و يدرككم الموت و لو كنتم فى بروج مشيدة". ثم إن المسألة ليست مسألة جسد فان، المسألة مسألة روح يرحمها الله أو يشقيها إلى الأبد. دخل أحد الشقوق، مدد جسده محاولاً النوم، بيد أنه كلما حاول الخلود للنوم يهب ضميره معاتباً فى قسوة، يجلده على كل ذنوبه و آثامه، و تستيقظ كل جروح التمثال الرومانى تهاجمه فى شراسه، لم يجد أمامه بداً من أن يتخيل "رشا" تجلس بجواره بحسنها الرائع ترنو إليه بعينيها الصافيتين، يبثها لواعج قلبه.. هذا هو الحل الوحيد للنوم.
فى الصباح اكتشف فى المكان بضعة نباتات صحراوية، تأملها بعناية و هو يسبح بحمد الله، طوال عمره يعشق النباتات. أخرج الماء من العين بيديه و راح يرويها، وجد بينهم نبتة صغيره نضرة، ربما ستكون نخلة تمر، ابتسم للنبتة بعد أن قرر تسميتها نخلة "رشا".. على كل حال فإن النباتات تشفع للعبد يوم القيامة.
جلس يتأمل نخلة "رشا"، صورة وجهها لا تفارقه أبداً. تذكر بعض ما قرأه فى كتب علم النفس، على حسب ما قرأ فإنها شخصية هستيرية. أمعن التفكير فتسائل فى نفسه لماذا يقع معظم الفنانين و قادة الجيوش العظام فى شباك المرأة الهسستيرية؟! .. قرأ لأحد علماء النفس المشهورين إنه لا يتصور أبداً أن يُبدع الإنسان دون الشعور بالشجن. الألم هو الذى يدفع إلى الإبداع، إذا كان لابد من كل هذا الألم ثمناً للموهبة التى أتفاخر بها على الجميع و لا أملك سواها فى هذه الدنيا فلا أريدها أبداً، ليتنى كنت صياداً بسيطاً فى البحر.
رن فى أذنيه صوت الشيخ و هو قول: "لا تعترض". كانا يجلسان فى هذا اليوم تحت ظلال شجرة الزيتون بينما الحمام و اليمام يطير فوقهما يسبح بربه. قال الشيخ أن الله يعوض عوضاً كبيراً الإنسان فى الآخرة عن كل الألام التى يشعر بها فى الدنيا، حتى شكة الدبوس يعوضه عنها خيراً، حتى أن العبد يوم القيامة يتمنى لو كانت حياته كلها آلام فى آلام من عظمة و روعة الخير الذى سيناله عوضاً عن الألم.. لكن ترى هل سيعوضنى الله و يغفر لى؟.. قد يغفر لى شرب الخمر، قد يغفر لى إهمالى فى الصلاة فهو ليس فى حاجة إلى صلاتى، لكن هل سيسامحنى فى ذنب "سلمى" و ابنها؟ هل سيسامحنى فى ذنب زملائى الذين دمرتهم الواحد تلو الآخر. الشيخ يرى أن الله لم يخلق الإنسان إلا ليعمر هذا الكون، و أنا خربت بيوتاً كثيرة، كانوا جميعاً مثلى لهم طموحات و أحلام، لهم مشاعر نبيلة مثلى، و ربما أنبل منى، ماذا ستقول لله حين يسألك عنهم؟ هل ستقول له لأننى دعوتك فلم تستجب؟ هل ستقول له لأننى فشلت فى الوصول إلى قلب "رشا" رغم أنك تعلم أنها تعيش بلا قلب؟ ما ذنبهم؟ لن يسامحك الله أبداً. أنت تستحق هذا التيه لتموت وحيداً فى هذه الصحراء. أنت عبد للتمثال الرومانى الرائع، إنك "آزر"، بنيت التمثال بيدك ثم سجدت له. هربت من الاسكندرية خوفاً على عقلك، خوفاً من أن تُجن مثل "مايكل أنجلو" الذى حطم تمثاله البديع لإنه خال من أى روح..
بعد أن صلى الظهر راح يقطف ثمار التين ثم يلوكها دون أن يشعر بطعمها. اشتم رائحة عطره، هاجت عواطفة تبعث فيه الشجن كل الشجن، جرت الدماء فى عروقه فاكتشف أنه لم يمارس الجنس منذ أن وصل إلى واحة سيوة بعد أن كان يمارسه يومياً تقريباً. رفع رأسه إلى السماء باكياً خاشعاً و هو يقول: سبحانك يا رب، أنت الذى ابتليتنا بالشهوة، ليس لى دخل فى ذلك.
عندما رفع عينيه إلى السماء رأى على سطح الأرض فتاة بدوية، أشارت له بالصعود إليها، أخذته المفاجأة فظل ساكناً فى مكانه. هبطت إليه فى خفة و رشاقة كأنها تعرف المكان جيداً، تتمايل فى دلال، كلما إقتربت انبعثت رائحة الياسمين الذى يعشقه، بدوية غير كل البدويات، تكشف عن وجهها الخمرى، على شفتيها ابتسامة عذبة فتبدو على وجنتيها غمازتان تزيدانها حسناً و جمالاً، رمقته بعينيها الواسعتان فى ترحاب، ترتدى ثوباً شفافاً يكشف كل تفاصيل جسدها دون حياء.
هم بالوقوف فعاجلته تضع يديها على كتفه لتمنعه، شعر بطراوة يدها و حرارتها، انتشى، زحفت الطمأنينة إلى قلبه عندما سألته عن اسمه و حكايته، فحكى لها، ثم طلب منها العون للرجوع إلى واحة سيوة، سمعته و هى تتلوى و تتثنى أمامه تستعرض جمالها حتى كاد يذوب رقة و يهيم بها. عندما تأكدت من أنه أصبح يتمنى البقاء معها فى الصحراء ليعب من كأس الحب و النشوة احتضنته، ارتجف كل كيانه فقدمت عرضها:
ـــ سآخذك معى إلى قبيلتى، أنا مليكتهم، سأجعلك أنت أيضاً ملكهم، إننا نعيش فى مكان قريب من هنا، ستجد لدينا كل ما تشتهى، أرض وارفة الظلال ، أشجار أعناب و وزيتون، مياه نقية، فراش من ريش النعام، مخازن لا تنفذ من الخمر. ستعيش معى فى قصرى، سيكون لك العبيد و الجوارى، قبيلتى ستكون هى شعبك المختار بعد أن يتوجوك ملكا و إلهاً عليهم مثلما فعل الفراعنة مع الإسكندر.
راح ينظر إليها فى دهشة غير مصدق ما يسمع، عندما رأت تردده تمددت بجواره و هى تتنهد فى دلال، بينما راح "محمد" يراقب صدرها الناهد الذى يعلو و يهبط وهو يناديه فى إغراء، ابتسم قائلاً:
ـــ موافق.
فقالت بهدوء و هى ما زالت ممددة بجواره بينما رفعت إحدى ساقيها لتبرز فتنتها:
ـــ لى شرط واحد بسيط.
سأل و الدماء تفور فى وجهه:
ـــ ما هو؟
ـــ تترك حقيبتك هنا.
قال بهدوء محاولاً التماسك:
ـــ هذه الحقيبة ليس بها إلا مصحف.
إعتدلت فى جلستها و هى تقول فى حزم:
ـــ قومى لن يسمحوا لك أبداً بالدخول إليهم و أنت تحمل هذه الحقيبة المتواضعة.
إلتقط "محمد" المصحف بقوة و هو يقول:
ـــ لن أترك هذا المصحف مهما حدث.
هبت واقفة و هى تقول فى غضب:
ـــ أنت حر. سأتركك هنا حتى تموت وحدك، و ربما أكلتك الذئاب حياً.
احتضن المصحف و هو يقول فى تحد:
ـــ لن أتركه أبداً.
ذهبت تقفز فوق الأحجار إلى أن وصلت إلى أعلى الجبل ثم استدارت إليه لعله يغير رأيه، لكنها وجدته قابضاً على المصحف بقوة، أزاحت ثوبها كاشفة عن صدرها و فتحت له ذراعيها بينما جلس "محمد" ساكناً فى مكانه، فتح المصحف و راح يقرأ و هو يبكى و يرتجف.
بعد أن صلى العشاء شعر بالطمأنينة تحيط بقلبه الملهوف لأول مرة فى حياته، دلف إلى الجحر الذى بات فيه الليلة الماضية، تزاحمت الأفكار فى رأسه: وجه "سلمى" وجه "رشا" صورة الشيخ، أرواح كثيرة تحوم حوله و تدير رأسه. بدون خمور لا يوجد أى أمل فى النوم سوى الحلم المر بالتمثال الرومانى.
بعد أن هامت الروح فى ملكوت ربها رأى نفسه يسير فى مكان ما غريب عنه تماماً، شوارع مكتظة بالناس، يتزاحمون، يتشاجرون، يصرخون فى ألم، كل يلهث وراء حلمه الضائع الزائف، الشوارع ضيقة، البيوت متلاصقة خانقة، وجد مسجداً صغيراً ، دخله، الأضواء خافتة، الهدوء تام، فى آخر المسجد باب مفتوح، تقدم ليرى شرفة مشرقة، الأرض مفروشة بالبلاطات الكبيرة تتخللها بعض الأعشاب الخضراء، العصافير تشدو بحمد الله، تصلى على طريقتها. الشرفة محاطة بسور لا يزيد ارتفاعه عن المتر و نصف المتر، أعطى ظهره للسور ليصلى. قبل الصلاة تساءل ماذا يوجد خلف هذا السور، التفت ليجد مقابر صامتة فى هدوء مريح للأعصاب، هدوء يبعث السكينة، لم يفزع لمشهد القبور، وضع كلتا يديه على السور و راح يتأمل المقابر فى هدوء و سعادة.
* الفصل الثامن، الخميس القادم، إن شاء الله.
* هذه الرواية مسجلة فى هيئة الكتاب تحت رقم 4920 / 2002.
حسام أبو سعدة.
عاد مرة أخرى إلى تيه الصحراء اللامتناهية. هجر الدار بعد أن وجد نفسه وحيداً بين مقبرتين. فهو لا يفزع من شىء بقدر ما يفزع من الموت.. لو كان الموت فناء تام ثم لا شىء بعد ذلك لكان ذلك رحمة كل الرحمة، لسعى إليه بكل رضا و سعادة، المشكلة بل المعضلة الكبرى فى مواجهة الذات الإلهية. كيف سيواجهه ربه وحيداً و هو مثقل بالذنوب محاط بأرواح ضحاياه يشهدون عليه؟ حتى هذا الجسد اللعين المفعم بالنشوة سيشهد عليه، سيتعلل بقلبه الجريح المريض.. بيد أن القلب سيتنكر له و يشهد عليه.. لقد عوضك الله بـ "سلمى" فلم تحافظ على النعمة.. أى إنسان هذا الذى يستطيع مواجهة رب العالمين؟!... إذا كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يبكى و يرتجف هلعاً من هذه المواجة فكيف سيكون الحال بالنسبة لإنسان مثلى؟!...
فكرة الموت تسيطر عليه منذ الأزل، منذ أن كان طفلاً صغيراً. يقولون أن الموت هو البوابة الأولى للفلسفة، و هو أيضاً الدافع الأول الذى يدفع المبدع ليجود و يبدع محاولاً قهر هذا الوحش البغيض. بعد تجربته مع التمثال الرومانى "رشا" راودته كثيراً فكرة الانتحار، أصبح يبحث عن أية أفكار سوداوية تبرره و تحلله، إنه لجوء إلى الله الرحمن الرحيم.
فر هاربا من "رشا" و من الموت إلى القاهرة، إلى أن تعرف على "سلمى" التى ما أن علمت بهذه الهواجس المخيفة حتى أصبحت لا تفارقه، تبثه حب الحياة، تدفعه دفعاً إلى الإبداع و النجاح ثم هجرها فى النهاية بعد أن شاخت و كثرت مشاكلها هى و ابنها المدمن.
جال ببصره فى المكان، لا شىء غير الرمال الصفراء، الأرض مشققة، قدماه متورمتان، يلهث وراء أى نقطة ماء أو أى شىء يؤكل، إلى أن رأى شجرة صبار ضخمة. يعرف أن هذا النبات التعيس لا يخزن بداخله إلا عصاره مرة، لكنه ماء على الأقل. جرح جذع الصبار بحجرة فسالت العصارة، مسحها بإصبعه و لعقها، انتفض كل كيانه للمرارة، لا يوجد شىء غير ذلك المر، فراح يلعق منها.
ظل يتابع السراب لمدة يومين، فى كل مرة يحدوه الأمل فى المياه، الله قادر على كل شىء، قادر أن يفجر له المياه يرتوى بها إلى أن يجد حلاً لهذا التيه الذى يبدو أبدياً.
وجد نفسه أمام جب عميق فى جوف الأرض. بدا له المكان مناسباً ليبات فيه. هبط على المنحدر الوعر بحرص شديد و هو يتعثر فى الصخور. بدا المشهد من أسفل مهولاً، الجبل يحيطه من كل جانب كأن الأرض قد غارت به إلى عمق لا يقل عن ثلاثين متراً، لا يوجد فوقه سوى السماء الصافية. فى بطن الجبل توجد شقوق كبيرة مخيفه لا أحد يعرف ماذا تأوى بداخلها. فى أحد الأركان تهبط الأرض فى انحدار شديد، تقدم بقدمين مرتعشتين حتى وجد الماء.. خر ساجداً شكرا لله، شرب بنهم حتى ارتوى، اغتسل فى سعادة و هو يقهقه وحده كالمجنون، ثم فتح حقيبته الوحيدة التى لا يوجد بداخلها سوى المصحف. إنه الشىء الوحيد الذى أخذه من أرض الوفاء، و راح يقرأ بصوت مرتعش و هو يتأمل الجبل الرهيب من وقت لآخر فى رعب.
هبط الظلام كثيفاً، الهلع ينهش قلبه، هرب النوم إلى غير رجعه. من يدرى ماذا سيحدث لو نام هنا، قد يموت و تخرج الذئاب لالتهام جثته دون أن يشعر به أحد على سطح هذه الأرض التى بدت له شاسعه بعد أن كان يراها صغيرة جداً أمام الطائرات النفاثه و الصواريخ المنطلقة تشق عنان الفضاء. سلم أمره الله و هو يقول فى نفسه: "و يدرككم الموت و لو كنتم فى بروج مشيدة". ثم إن المسألة ليست مسألة جسد فان، المسألة مسألة روح يرحمها الله أو يشقيها إلى الأبد. دخل أحد الشقوق، مدد جسده محاولاً النوم، بيد أنه كلما حاول الخلود للنوم يهب ضميره معاتباً فى قسوة، يجلده على كل ذنوبه و آثامه، و تستيقظ كل جروح التمثال الرومانى تهاجمه فى شراسه، لم يجد أمامه بداً من أن يتخيل "رشا" تجلس بجواره بحسنها الرائع ترنو إليه بعينيها الصافيتين، يبثها لواعج قلبه.. هذا هو الحل الوحيد للنوم.
فى الصباح اكتشف فى المكان بضعة نباتات صحراوية، تأملها بعناية و هو يسبح بحمد الله، طوال عمره يعشق النباتات. أخرج الماء من العين بيديه و راح يرويها، وجد بينهم نبتة صغيره نضرة، ربما ستكون نخلة تمر، ابتسم للنبتة بعد أن قرر تسميتها نخلة "رشا".. على كل حال فإن النباتات تشفع للعبد يوم القيامة.
جلس يتأمل نخلة "رشا"، صورة وجهها لا تفارقه أبداً. تذكر بعض ما قرأه فى كتب علم النفس، على حسب ما قرأ فإنها شخصية هستيرية. أمعن التفكير فتسائل فى نفسه لماذا يقع معظم الفنانين و قادة الجيوش العظام فى شباك المرأة الهسستيرية؟! .. قرأ لأحد علماء النفس المشهورين إنه لا يتصور أبداً أن يُبدع الإنسان دون الشعور بالشجن. الألم هو الذى يدفع إلى الإبداع، إذا كان لابد من كل هذا الألم ثمناً للموهبة التى أتفاخر بها على الجميع و لا أملك سواها فى هذه الدنيا فلا أريدها أبداً، ليتنى كنت صياداً بسيطاً فى البحر.
رن فى أذنيه صوت الشيخ و هو قول: "لا تعترض". كانا يجلسان فى هذا اليوم تحت ظلال شجرة الزيتون بينما الحمام و اليمام يطير فوقهما يسبح بربه. قال الشيخ أن الله يعوض عوضاً كبيراً الإنسان فى الآخرة عن كل الألام التى يشعر بها فى الدنيا، حتى شكة الدبوس يعوضه عنها خيراً، حتى أن العبد يوم القيامة يتمنى لو كانت حياته كلها آلام فى آلام من عظمة و روعة الخير الذى سيناله عوضاً عن الألم.. لكن ترى هل سيعوضنى الله و يغفر لى؟.. قد يغفر لى شرب الخمر، قد يغفر لى إهمالى فى الصلاة فهو ليس فى حاجة إلى صلاتى، لكن هل سيسامحنى فى ذنب "سلمى" و ابنها؟ هل سيسامحنى فى ذنب زملائى الذين دمرتهم الواحد تلو الآخر. الشيخ يرى أن الله لم يخلق الإنسان إلا ليعمر هذا الكون، و أنا خربت بيوتاً كثيرة، كانوا جميعاً مثلى لهم طموحات و أحلام، لهم مشاعر نبيلة مثلى، و ربما أنبل منى، ماذا ستقول لله حين يسألك عنهم؟ هل ستقول له لأننى دعوتك فلم تستجب؟ هل ستقول له لأننى فشلت فى الوصول إلى قلب "رشا" رغم أنك تعلم أنها تعيش بلا قلب؟ ما ذنبهم؟ لن يسامحك الله أبداً. أنت تستحق هذا التيه لتموت وحيداً فى هذه الصحراء. أنت عبد للتمثال الرومانى الرائع، إنك "آزر"، بنيت التمثال بيدك ثم سجدت له. هربت من الاسكندرية خوفاً على عقلك، خوفاً من أن تُجن مثل "مايكل أنجلو" الذى حطم تمثاله البديع لإنه خال من أى روح..
بعد أن صلى الظهر راح يقطف ثمار التين ثم يلوكها دون أن يشعر بطعمها. اشتم رائحة عطره، هاجت عواطفة تبعث فيه الشجن كل الشجن، جرت الدماء فى عروقه فاكتشف أنه لم يمارس الجنس منذ أن وصل إلى واحة سيوة بعد أن كان يمارسه يومياً تقريباً. رفع رأسه إلى السماء باكياً خاشعاً و هو يقول: سبحانك يا رب، أنت الذى ابتليتنا بالشهوة، ليس لى دخل فى ذلك.
عندما رفع عينيه إلى السماء رأى على سطح الأرض فتاة بدوية، أشارت له بالصعود إليها، أخذته المفاجأة فظل ساكناً فى مكانه. هبطت إليه فى خفة و رشاقة كأنها تعرف المكان جيداً، تتمايل فى دلال، كلما إقتربت انبعثت رائحة الياسمين الذى يعشقه، بدوية غير كل البدويات، تكشف عن وجهها الخمرى، على شفتيها ابتسامة عذبة فتبدو على وجنتيها غمازتان تزيدانها حسناً و جمالاً، رمقته بعينيها الواسعتان فى ترحاب، ترتدى ثوباً شفافاً يكشف كل تفاصيل جسدها دون حياء.
هم بالوقوف فعاجلته تضع يديها على كتفه لتمنعه، شعر بطراوة يدها و حرارتها، انتشى، زحفت الطمأنينة إلى قلبه عندما سألته عن اسمه و حكايته، فحكى لها، ثم طلب منها العون للرجوع إلى واحة سيوة، سمعته و هى تتلوى و تتثنى أمامه تستعرض جمالها حتى كاد يذوب رقة و يهيم بها. عندما تأكدت من أنه أصبح يتمنى البقاء معها فى الصحراء ليعب من كأس الحب و النشوة احتضنته، ارتجف كل كيانه فقدمت عرضها:
ـــ سآخذك معى إلى قبيلتى، أنا مليكتهم، سأجعلك أنت أيضاً ملكهم، إننا نعيش فى مكان قريب من هنا، ستجد لدينا كل ما تشتهى، أرض وارفة الظلال ، أشجار أعناب و وزيتون، مياه نقية، فراش من ريش النعام، مخازن لا تنفذ من الخمر. ستعيش معى فى قصرى، سيكون لك العبيد و الجوارى، قبيلتى ستكون هى شعبك المختار بعد أن يتوجوك ملكا و إلهاً عليهم مثلما فعل الفراعنة مع الإسكندر.
راح ينظر إليها فى دهشة غير مصدق ما يسمع، عندما رأت تردده تمددت بجواره و هى تتنهد فى دلال، بينما راح "محمد" يراقب صدرها الناهد الذى يعلو و يهبط وهو يناديه فى إغراء، ابتسم قائلاً:
ـــ موافق.
فقالت بهدوء و هى ما زالت ممددة بجواره بينما رفعت إحدى ساقيها لتبرز فتنتها:
ـــ لى شرط واحد بسيط.
سأل و الدماء تفور فى وجهه:
ـــ ما هو؟
ـــ تترك حقيبتك هنا.
قال بهدوء محاولاً التماسك:
ـــ هذه الحقيبة ليس بها إلا مصحف.
إعتدلت فى جلستها و هى تقول فى حزم:
ـــ قومى لن يسمحوا لك أبداً بالدخول إليهم و أنت تحمل هذه الحقيبة المتواضعة.
إلتقط "محمد" المصحف بقوة و هو يقول:
ـــ لن أترك هذا المصحف مهما حدث.
هبت واقفة و هى تقول فى غضب:
ـــ أنت حر. سأتركك هنا حتى تموت وحدك، و ربما أكلتك الذئاب حياً.
احتضن المصحف و هو يقول فى تحد:
ـــ لن أتركه أبداً.
ذهبت تقفز فوق الأحجار إلى أن وصلت إلى أعلى الجبل ثم استدارت إليه لعله يغير رأيه، لكنها وجدته قابضاً على المصحف بقوة، أزاحت ثوبها كاشفة عن صدرها و فتحت له ذراعيها بينما جلس "محمد" ساكناً فى مكانه، فتح المصحف و راح يقرأ و هو يبكى و يرتجف.
بعد أن صلى العشاء شعر بالطمأنينة تحيط بقلبه الملهوف لأول مرة فى حياته، دلف إلى الجحر الذى بات فيه الليلة الماضية، تزاحمت الأفكار فى رأسه: وجه "سلمى" وجه "رشا" صورة الشيخ، أرواح كثيرة تحوم حوله و تدير رأسه. بدون خمور لا يوجد أى أمل فى النوم سوى الحلم المر بالتمثال الرومانى.
بعد أن هامت الروح فى ملكوت ربها رأى نفسه يسير فى مكان ما غريب عنه تماماً، شوارع مكتظة بالناس، يتزاحمون، يتشاجرون، يصرخون فى ألم، كل يلهث وراء حلمه الضائع الزائف، الشوارع ضيقة، البيوت متلاصقة خانقة، وجد مسجداً صغيراً ، دخله، الأضواء خافتة، الهدوء تام، فى آخر المسجد باب مفتوح، تقدم ليرى شرفة مشرقة، الأرض مفروشة بالبلاطات الكبيرة تتخللها بعض الأعشاب الخضراء، العصافير تشدو بحمد الله، تصلى على طريقتها. الشرفة محاطة بسور لا يزيد ارتفاعه عن المتر و نصف المتر، أعطى ظهره للسور ليصلى. قبل الصلاة تساءل ماذا يوجد خلف هذا السور، التفت ليجد مقابر صامتة فى هدوء مريح للأعصاب، هدوء يبعث السكينة، لم يفزع لمشهد القبور، وضع كلتا يديه على السور و راح يتأمل المقابر فى هدوء و سعادة.
* الفصل الثامن، الخميس القادم، إن شاء الله.
* هذه الرواية مسجلة فى هيئة الكتاب تحت رقم 4920 / 2002.
حسام أبو سعدة.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق