قصة قصيرة
*( أغبياء )
بشدة كانت تستفزني علامات الغباء التي كانت ترتسم على وجوه سكان مدينة احتلها الجهل وسرق أذهان أهلها بخرافات وأساطير مسخت عقولهم وفصلتهم عن حاضرهم فلا يفكرون إلا بالماضي ولا يخططون إلا بحسب ما هو ماض .لم يكونوا طموحين ولم يستهويهم الجديد وكانت الحداثة أبغض مايكون لأنفسهم وأبعد مايكون عن اهتمامهم حيث ترسخت بأذهانهم أن الحداثة أمر مخيف وأن العلم يقود إلى التمرد وكانت الفلسفة بالنسبة لهم مجرد ترف وتعال وكان أحدهم حين يستاء من آخر يقول له متذمرا : لاتتفلسف علينا وتكلم بطريقة صحيحة. لأنهم اعتادوا الفهم السطحي والساذج للأشياء فلم يكونوا مهتمين للعمق وكان جل تركيزهم منصب على السطح ، هم أشبه بقشة على سطح نهر يحركها أقل النسيم الى حيث يريد وتدفعها تيارات الماء وإلى حيث تشاء تقلبها . كان الغضب يتملكني حين أشعر بالمغدورية بين هذه الجموع اللامنتمية لعقل القرن الحادي والعشرين وكانت الحضارة تبدو لأعينهم نحلالا ولمسامعهم نشازا ولأذهناهم خطرا محدقا على العادات والتقاليد التي ألفوها من أسلافهم المقبورين على هامش من الزمن تعده الحياة صفحة سوداء غابرة بالكراهية ومغمسة بدماء الضحايا التي نحرتها سيوفهم ومنقعه من دموع اليتامى والأرامل والثكالى حيث كتبت حروفها من آهات السبايا، ومداد حروفها من النهب، وشيدت سطورها من غنائم ، فكان مجدا غاشما تؤطره القسوة وانعدام الرحمة من كل جانب . فمن تلك الصفحةالمشينة ينهجون، ومن تراثهم المعطر برائحة الدم، وقرقعة السيوف، وصهيل الخيل، وصراخ الأطفال، وعويل النساء ،ينتشون، كلما شعروا بالأحباط او آلمهم هوان تخلفهم عن قطار الأجيال الذي سبقهم الى الف جيل الى الأمام . كان يستفزني جدا عشقهم للحزن وافتخارهم بذلك الحزن والأصرار على ترسيخ ثقافة الحزن لا الفرح ، وكانوا يثيرون بداخلي القرف حين أشاهدهم يتعقلون الحياة بعقل غيرهم وقد ألغوا عقولهم بأرادتهم وكانوا يتبجحون بشعارهم البغيض: الغ عقلك وافهم الحياة عبر ذهن راعي القطيع ، لم يرق لهم ان تستقل اذهانهم وتكتشف الحقائق بأرادتها وفي مطلق حريتها ،ولم يكونوا يعلموا ، "ان لكل ذهن حقيقته " "وان لكل ذهن لون يصبغ به شكل الحياة وتبدو له فيه " "فمن خلف النافذة الحمراء ستبدو الحياة حمراء وعبر المصباح الأحمر سيبدو لون غرفة النوم أحمرا وإن كان في حقيقته غير ذلك ، " "فلكل ذهن حقيقته التي تقع على شاكلة ماهو معد سلفا فيه لاستقبالها " "فالإعداد الذهني يقود الى تعقل الحقيقة التي يفترض ان يتلقاها الذهن من خلاله " .لقد فهم المحتالون عبر العصور التي تعاقبت على تلك المدينة فهموا طريقة الإستحواذ على تلك الجموع المتمردة على التعقل المستقل وكانوا يعدون أذهان الناس فيها لتلقي الحقيقة التي يريدون غرسها بأذهانهم وكان أولئك الطغاة المحتالين ينتشون فرحا لتقبل الناس لأوهامهم وخرافاتهم والأنقياد اليهم كغنم لراع يتبعه القطيع لأنه لايعرف المسير والأتجاه دونه وكان كل ماعلى الراعي هو سوق واحدة او أكثر من الغنم لتأتي البقية ، وكل هذا القطيع الهائل من الغنم يقوده راع واحد أوهمهم بأنه هو اقوى منهم جميعا فلم يفكر أحد بالتمرد عليه او الأستقلال بالسير والشعور بلذة اكتشاف المراعي ، وهكذا تمكن ذلك الراعي المحتال من تعطيل الرغبة فيهم لبلوغ الحقيقة ولم يعد لديهم رغبة باكتشاف الحقيقة التي قام ذلك الراعي المحتال بتعطيل برنامجها في أذهانهم فتعطلت أذهانهم وانساقوا وراءه دونما أي نقاش وكان أمثلهم طريقة ينفذ مايملي عليه القطيع أولا ومن بعدها يناقش الأمر مع نفسه حيث لايجدي النقاش بعد موت مريض لأنه مات وانتهى وغيره أولى بتسليط الضوء عليه والنقاش حوله .كان يستفزني جدا أحدهم وهو يقول لي : ألطبيب هو فقط من يملك كتابة الوصفات وهو الأعلم بتشخيص مرضاه وماهم بحاجة إليه وليس كل الناس بأطباء لذا كان لزاما على المريض أن يأخذ وصاياه من الطبيب ، لقد كان يستفزني جدا هذا المثال إلى درجة الغثيان لأنه وببساطة يعد هذا اللون من الإعداد الذهني للناس أحتيالا لأن هذا المثال هو توظيف لمثال حسي لإستنتاج فلسفي ، لأن المرض حالة حسية والعلوم الطبية تتعامل مع بدن الإنسان، ووظيفتها لاتعالج امور ماوراء الحس ،بينما الفلسفة هي امتداد عميق لفهم الظواهر والمظاهر وقد تخترق قبة العقل بين الحين والآخر وتبلغ من الإكتشافات مايوسع دائرة العقل ويمدد أقطاب اطار الفهم البشري لذلك تجد اولئك المنضوين تحت راية القطيع وطريقة فهمه للحياة تجدهم أعدى أعداء الفلسفة ويقفون حجر عثرة لكل فهم جديد للحياة ، ولتجدنهم حجر عثرة بوجه عجلة الحراك الى الأمام والإصرار على البقاء في الحفرة الذهنية والخندق الضيق الذي شقته انامل عتاة الماضي حين لم يكن لديهم أدوات وآليات متطورة كما هي لدى المنتمين للقرن الحادي والعشرين ، كنت في بعض الأحيان ألوم القدر الذي قدر لي ان أعيش حياتي بكاملها بين هؤلاء وكنت أحتار بالطريقة التي أستوعب بها تصرفات هؤلاء دون أن أشعر بالأذى فهم يبدون لي كتلة هائلة من الخطأ وانعدام الذوق وقد آلمني هذا الأحساس مدة طويلة حتى تمكنت أن أفهم هؤلاء بطريقة لاتسبب لي الألم وانقباض المزاج ،فبعد ان كنت أراهم مجاميع كبيرة من الشياطين البشرية واحيانا اخرى مجاميع من المرضى العقليين او الفوضويين ، وبعد ان كان يعذبني ذلك التساؤل الذي كان على شقين وهو لماذا خلق الرب هذه الجموع الضخمة من الأوباش والدهماء الغير قابلين للصلاح والرافضين لكل إستصلاح ، وأحيانا أخرى يأتي التساؤل بصيغة اخرى مفادها ان كل شيء في هذا الكون مرتب أدق الترتيب ويسير عبر برنامج إدارة ذكي للغاية إلا هذه الجموع النشاز من الناس هي خارج اطار السلوك الذكي وخارج نطاق منظومة الذكاء الكوني فلم يشملها ذلك التطور وكانت مثل عجلة أنفلتت من مركبة فهوى الاطار الى الوادي واستقر فيه بينما المركبة اصلحت عطبها واستبدلت اطارها بغيره ومضت الى الأمام على سبيل الحياة بينما هؤلاء لا يزالون قابعين في وادي الحضيض . " وفي لحظة خاطفة كان لي فهما جديدا لهؤلاء فقد بدا لي ان الرب قد خلق هؤلاء باعتبارهم طاقة بشرية أولا، ولم يخلقهم كطاقة عقلية، وقد خلقهم الرب على هذه الشاكلة لأن دورهم في الحياة هو أن يكونوا طاقة ،ووظيفتهم هي الخدمة في الأتجاه الصحيح ، فلم يكن وجودهم امرا عبثيا او فوضويا كما كنت أتصوره بل لوجودهم هدف ووظيفة، " وأيقظ الرب بذهني فكرة مفادها : " أن الطاقة وبكل انواعها ليست مسؤولة عن تصرفاتها وافعالها بل تقع المسؤولية كاملة على من يمتلك مفاتيح التصرف بتلك الطاقة " حيث يوجهها للهدف الذي يريد ، " وأن الرب سوف يدين كل من سخر هذه الطاقة البشرية الهائلة ووجهها نحو الإرهاب أو الكراهيات أو هدم الحياة ونشر الألم وارتكاب أبشع الشرور " نعم " المسؤولية الكاملة تقع على الذين مكنهم الرب من تسخير هذه الجموع واقتيادهم للوجهة التي يريدون " ، تلك الوجهة التي أعطى الرب لهم حرية اختيار الطريق اليها ، فكانت" وجهة الرب هي الاتجاه الصحيح،وجهة المحبة والعفو والسلام وبناء الأنسان " وترك لأولئك القادة والرعاة أن يتجهوا اليها عبر تلك القطعان المسخرة اليهم بعد ان ملكهم الرب مفاتيح التسخير واستغلال تلك الطاقات البشرية لخدمة الحياة وبناؤها فكانت تلك الفكرة بمثابة عزاء كبير رفع عني مهام ثقل معرفة سبب وجود تلك القطعان من الناس على كوكبنا العائم في فضاء كون ذكي مشيد على درجة فائقة جدا من الذكاء.
وما أن انجلت تلك اللحظة حتى أعقبتها لحظة خاطفة أخرى حملت الي فهما جديد وكان فيها إجابة شافية حول تساؤلي الآخر حول الحكمة من تجريد تلك الجموع من الذكاء وقد ارتحت كثيرا حين بدا لي أن " الذكاء لا يعمل بدون طاقة وأن الطاقة هي العجلة التي يتحرك من خلالها الذكاء نحو الخير والشر " ، "فكانت تلك الجموع هي جسد اجتماعي كبير على شاكلة اجسادنا التي تحركها عقولنا " ، " فللمجتمع عقل متمثل في قلة من افراده يتحكمون بهذا الجسد الأجتماعي دون اختيار منه ولا ارادة " ، " والمسؤولية الكاملة تقع على العقل لا على الجسد ، ولن يدين الرب جسدا مسخرا لعقل يتحكم فيه بأعتباره طاقة خاضعة له " . " فلم يكن تجريد الطاقة من الذكاء خطأ او هفوة بالوجود، بل أن طبيعة الطاقة هي الخضوع لذلك العقل او الرمز " ، " فكل ماعليك هو ان ترفع عمود نحو السماء في لحظة نزول الصواعق وسوف تستقطب تلك الطاقة الى الأرض مرغمة لأن برنامج الرمز الذي يستقطبها دون اختيارها هو عمود حديدي يصوب نحوها من الأرض، ولن تكون الصاعقة مسؤولة عن قتل حامل العمود وحرق داره بل الذي وجهها الى تلك الوجهة " ، " لذا ومنذ الأزل طبيعة الطاقة هي الخدمة وطبيعة الذكاء هي التوجيه " ، " فكانت وظيفة الذكاء هي توجيه الطاقة " ، " ووظيفة الطاقة هي الخدمة لمن يمتلك مفاتيحها ويعرف سر استخدامها. " ، " وما ذهن المرء سوى أناء يتلقى من خلاله طاقة عقليه ليحسن استخدامها بعد التلقي " ، " فالفكرة بحد ذاتها طاقة عاملة تقود الى شيء ما " ، " لذا كان لزاما أن يكون حرية توجيه آنيتنا الذهنية إلى مانظن فيه مصدرا يمنحنا المزيد من حرية الإكتشاف ويشوقنا للفهم العصري الذي يواكب وجودنا ويجعل منا ذكاء انسانيا رحيما يوجه تلك الطاقة البشرية ويقودها نحو بناء الحياة وصرحها الحضاري، لا لدمارها وهدمها . " .
* أغبياء : هذه الكلمة في قصتنا ليست تعبيرا عن شتم لأفراد أو جماعات ، إنما هي تعبير عن الطاقة البشرية المجردة عن الذكاء ، وكذا كل طاقة .
رائد مهدي / العراق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق