مَلِك مُلُوك الموسيقا
هناك أغانٍ .... تَشعُرُ و كأنّ ملاكاً فوق بشريٍّ قد لحّنها ...
تدخُلُ إلى قلبك فلا تنساها أبداً... تشعر و كأنك ستغنّيها حتى في لحظة نزولك القبر لتأخذ لك آخر رشفة حياة من الحياة !!!
تعشّش فيك و تحفر نفسها على جدران مخك و مخيخك و بصلتك السيسائية و هرموناتك الكيميائية .....
خذ هذه الأغنية ( الطير المسافر) مثلاً .... أجمل ما غنت نجاة ....
على الإطلاق ...
تَضرُبُك نُوتَاتُها بكُلّ (دُو) و (رِيْهْ )و (مِي )و (صول) على صَمَّام قلبِك لتنتَزِع تاجه الإكليلي ، فتشعر و كأن الموسيقا تلعب مع دسّامات قلبك فتحاً و ضمّاً و غُمّيضة!
لا أدري مقدار جرعة الهيرويين التي كان قد تعاطاها آيةُ الموسيقا العُظمى ( بليغ حمدي ) قُدِّس سرُّ عُودِه الشريف ، ليُخرِج هكذا لحن إلى الوجود !!! لكنها بالتأكيد تعادل أكثر من نصف هيرويين العالم ذاك المُنَكَّه بكل الحشيش المضروب الذي ينبت في المجموعة الشمسية و ضواحيها إلى حدود الحزام الكوني.
هو مُجرم بحق في طريقة تعامله مع الأوتار و الأزرار و المُسَطّحات و المُقعَّرات و المُحدَّبات و المزامير و المَندُولِين و الكمنجَات و الفْلُوت و البزق و الأورغ و المزمار و السكسيفون و الناي و الآي بل حتى الزُّمَّيرَة و الدربكة و حراشف التمساح.
تشعر و كأنه يستطيع أن يخرج لك لحنا من سبطانة بندقية خردة .... من تحت الأخمص و فوق الأخمص .... إنه فعلاً قناص الألحان و عفريت الألوان.
هو إرهابي في طريقة تركيبه للنغمات المجنونات الرقيقات الطروبات اللذيذات المتمايلات المائلات المميلات الغنوجات المُهَستِرات الراقصات و المُرقِّصات !
هو مجرم في طريقة امتطائه لحنجرة ثومة و ترويضه لحنجرة العندليب و تشبِيبِهِ بحلقوم نجاة و اقتحامة لحلق صباح ... !
جوزة حلق فيروز هي الوحيدة الخاسرة إذ هربت من جعبته صدفة .... فكانت أكبر كارثة موسيقية في تاريخ الكوكب !
هذا العفريت بليغ حمدي ... التقصيرة الذي لا يتجاوز 160 سم .... كان قد تعاقد و قدّم الرَّشاوى لكل الملائكة و الشياطين ليحصل على هذا الكم المهول من الإبداع العفوي و الغزارة الإنتاجية التي تفوق كثافة الانبعاثات الحرارية الكروية الأرضية التي ثقبت الأوزون !!!
هذا الكَمّ العجيب من الإبداع الذي أغرق الأجيال كلها و ناطحات سُحُبِهم من الأساس إلى الرّاس ... و من الثَّرى إلى الذُّرى ... فكان طوفاناً نُوحياً أسطورياً في عالم الترددات الصوتية و التواترات اللحنية ...
في الحقيقة أنا لا أشكر نجاة الصغيرة صاحبة الخامة العبقرية على روعة أدائها في هذه الأغنية (الطير المسافر) ... لأن هذا اللحن لو غناه أي (طنبرجي) أو (جوعرجي) بائع مازوت أو غاز أو دكتور بالتنشيز ... لاستحضر الأرواح و الملأ الأعلى و أسقط العصافير من وُكُناتها و استفز الجان من عوالمهم الماورائية و أردى المذنبات بتصادمات عشوائية !!
هذا اللحن الذي لو غناه اسماعيل يس لاستسلمت لشفاتيره البلابل و الأغصان و الفراشات ....
بل أشكر أصابع و أظافر و أزرار بيانو بليغ حمدي ، زراً زراً ، و أوتار عوده وتراً وتراً ، و كل حركاته المقدسة قُدساً قدساً ، و أنفاسه نفَساً نفَساً ، و سكناته سَكَناً سَكَناً ، و شروداته و تأملاته و كهرباء دماغه و عصبوناته على ما قدمه لنا و للبشرية ....
عندما أستمع لألحانه أصاب بحالة احتقار و ازدراء لأكبر المقطوعات العالمية و أصحابها من مثل بيتهوفن و موتزارت و رخمانينوف و فيرداي و باخ البخّاخ .... و يتحول ياني اليوناني في نظري إلى مجرد( شخّاخ ) يضحك علينا بألحانه المكررة و المقتبسة بمعظمها من الكلاسيك.
و أعتب بشدة على الدكتور سعد الله آغا القلعة و أوجّه له السؤال التالي :
كيف تقوم بتقديم برنامج عن حياة عبد الوهاب و فريد و أسمهان و تتغافل عن بليغ الذي قدم أجمل ألحان القرن العشرين ؟؟؟
دخلتُ الشهر الماضي إلى صفحته فإذا به و في إطار محاولته لإحياء الموسيقا يطرح السؤال التالي :
ما هي شروط الجيل الذي سينهض بالموسيقا العربية في هذا القرن بعد أن أصيبت بالانحدار .... ؟
فكتبت له تعليقاً واحداً شافياً كافياً....
( لا تحتاج إلى جيل لينهض بالموسيقا العربية .... بل عليك أن تكتشف ملحناً واحداً بربع ثمن إمكانيات بليغ و سيحمل نهضة الموسيقا الكونية خلال الألفيَّتين القادمتين على أكتافه .... )
أما بالنسبة للدكتور الذي ألف كتاباً عن أعمدة الموسيقا في القرن العشرين و لم يذكر منهم هذا البليغ، فأقول له : أعطني شهادتك لأمزقها .... !
إنك مجرم بحق تاريخ الموسيقا يا دكتور ....
إن معظم ألحان السبعة الذين طَبّلت و زمّرت لهم ( مع تقديسي و عشقي لهم ) انقَبَرَت بموتهم و لم يعد أحد يتعاطى معظمها لما فيها من حشو و ملل و تسبيل عيون و دعوات صريحة للنوم أحيانا....!
بينما بليغ و ما أدراك ما بليغ (فليَقبُرُني ربُّ بليغ ) ... !
ها هو حي كل يوم في شوارعنا في بيوتنا في دكاكيننا في حمّاماتنا في مؤسساتنا الحكومية في قهاوينا في مشافينا في سيغارة كل حشاش من نواكشوط إلى المنامة ، في كابلات الكهرباء و في كل واي فاي و تحت كل حاسب و في شاشة كل جوال ، تحت عجلات السيارات فوق مناشر الغسيل في أدمغة القطط في لهاث الكلاب في دموع ثكالى حبيبتي مصر ، في لواقط المذياعات ، في مستقبلات التلفازات في صوت بنت جيراننا و هي تستحم و في الحروب و السلام و أعياد الميلاد و في قلب كل مسلم و في دماغ كل ملحد و في دماء كل مسيحي و في صميم كل يهودي ... بل حتى في عروق كل ابن زنا و كل مجرم و كل حامل لجائزة نوبل للسلام ...
و لا أستثني جارنا اللحام أبو محمود الذي يتصبح كل يوم بأغنية (الرفاق حائرون) ....
بل حتى في أميركا و أوروبا و الفلبين و نيكاراغوا اليوم تُسرق ألحان بليغ و تُعلّب و توزع كأرقى و أنظف أنواع المأكولات التطريبية حول العالم !!
لا( الأطلال )و لا (الجندول) و لا ( كليوبترا )و لا (سلو كؤوس الطلا ) و لا (الأمل) و لا (الأولة في الغرام) و لا (في الليل لما خلي) ولا أي أغنية مُدججة بالشفترة و التفخيم و التدوير المُمل يتم الاستماع إليها بربع نسبة الاستماع إلى أغانٍ من مثل (مستنياك) أو (يانا يانا ) أو ( بعيد عنك ) أو (ياحبيبتي يا مصر) أو (العيون السود) أو( الطير المسافر) أو ( على حسب وداد) أو (فات المعاد)...
أين تذهب في هذه الزحمة يا صديقي الدكتَرجي الذي أسقطْتَ نفسك بعدم ذكر بليغ كأهم مجدد للموسيقا في القرون كلها ؟؟ ....
و أعجب من بعض النقاد المصريين !!
كيف لا يجعلون بليغاً رقم واحد في تصنيفهم لآلهة الموسيقى في مصر و هو الوحيد الذي بعث اللحن الشعبي المصري القُح من القبور الفرعونية و حوله إلى لحن عالمي ( سواح مثلاً)(على حسب وداد) (عدوية) ( بهية) ... بينما يقدمون عليه من ذهب و اقتبس من الغرب ثم بالرغم من اقتباسه لم يبلغ بليغاً و لا مُدَّهُ ولا نَصيفَه !!!!
ألهذا الحد نخون وطننا و توت عنخ أموننا و شعبياتنا و شوارعنا و أهراماتنا و نيلنا و أمنحوتب الخامس و كليوبترانا ؟؟؟
أنا أقبل من أي شخص أن يشكِّك بوجود الهواء و الشمس و الماء ... و لكنني لا أقبل أن تستغبيني و تقول أن (أطلال) السنباطي _على روعتها _ أجمل من (ألف ليلة ) بليغ الخرافية .... أو أن تقول أن (قارئة الفنجان) أجمل من (موعود) أو ( حاول تفتكرني) أو (زي الهوى) ....لأن إحساسي لا يخطئ و ذائقتي الفنية لا تخيب ..... فهي مبرمجة على الجمال و الموضوعية و الحيادية ... و التراقصية و التطريبية و التمايلية و الهِشِّك بِشِّكِية....
نعم إنه ملك الهِشّك بِشّك و لحظات التطريب و الذوبان ...
ركز معي قليلا بالمقدمة الموسيقية الكازينوهاتية الكارثية المجنونية ل(موعود ) حليم ... و قارنها بالمقدمة البطيئة الرخوة المميتة المملة للأطلال ... شتان يا صديقي الفنان!
جنون و هستيريا الجماهير في حفلات حليم البليغية يشهد بذلك ...
تراقصهم تضاربهم زعيقهم لدرجة أنه يتوقف عن الغناء ليُخرسهم ثم يصفّر و يقول ( مالكم يا جماعة ضايجين أوي ... و أنا بردو بعرف أزعق و أصفر ...)...
و يردون عليه :(ما تواخزناش ياباشا أصل بليغ دوبنا و خلانا بلا عقول منزعق زي المجنين مع آلاتو الموسيقية الفلتانة عل مسرح و قاعدة بتردح !! )
ذلك الجنون و الهلع و الذوبان الذي لا يقارن بأي ضجيج جمهوري عبر التاريخ ...
إن بليغاً لقصة كبيرة في الملأ الأعلى و ضوضاءاً مخيفة في الأكوان .... و وحياً لا ينضب من الألحان ... و لكن قومي لا يكادون يفقهون حديثاً ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق