الخميس، 23 نوفمبر 2017

الذكاء و الموهبة. ـ بقلك حسام أبو سعدة.

الذكاء و الموهبة.
العلاقة بين الذكاء و الموهبة معقدة. الذكاء يحتاج الموهبة لتحقيق الطموحات و الموهبة تحتاج الذكاء لإدارتها و صقلها و تحقيق النجاح. ما هو المقياس الحقيقى للنجاح؟
كثيرين يعتقدون أن قمة النجاح فى أن يتمكن المُبدع فى عرض إبداعه أمام الملوك. هذا يفتح له أبواب الشهرة و المجد و الثروات الطائلة.
هكذا نجح "إسحق الموصلى"، تمكن من الوصول إلى قصور الخلفاء العباسيين فى "بغداد" لتقديم الموسيقى و الغناء. أصبح من أشهر المغنيين، يستمتع بالنفوذ و تنهال عليه الأموال لقربه من الملوك. و ذات يوم طلب منه "هارون الرشيد" أن يأتى له بصوت جديد. اندفع "إسحق" يؤكد أن هذه الموهبة الجديدة متوفرة تحت يديه الآن، و هو الذى أحسن تربيته و تأديبه و علمه فنون الموسيقى. فى اليوم التالى قدم له الشاب الأسمر النحيل "أبو الحسن على بن نافع". أمره الخليفة بالشدو فراح يلقى قصيدة ألفها بنفسه فى مدح الخليفة على عوده الخاص الذى صنعه بنفسه. ابتهج "الرشيد" بصوته العذب و دارت رأسه بسحر رنين الأوتار بين يديه. و لذلك أكرمه بالمال الوفير.
هذا الحماس من "الرشيد" دفع "إسحق" إلى الشعور بالغيرة و الحسد، خشى من فقدان مكانته الرفيعة. لذلك ما أن خرجا من عند الخليفة حتى خيّر تلميذه بين أمرين: إما أن يترك "بغداد" حالًا دون رجعة أو سيقتله و يقضى عليه تمامًا.
بالتأكيد، كان فى إستطاعة "أبو الحسن" العودة إلى "الرشيد" لطلب الحماية، لكنه آثر السلامة و رحل فى اليوم التالى مع أسرته الصغيرة إلى بلاد المغرب. رحل حاملًا فى صدره الكثير من فنون الموسيقى و الكثير من الأحزان. لكنه لم يتمكن من البقاء فى المغرب كثيرًا. لم يجد أمامه إلا الأندلس، عاصمة الدولة الأموية التى تنعم بالحضارة و الرقى، ترعى العباقرة و المبدعين.
كتب إلى الخليفة "الحكم بن هشام" ليسمح له بدخول الأندلس و وافق الخليفة على الفور بعد أن سمع عنه. لكن ما أن وصل "أبو الحسن" إلى هناك حتى علم بوفاة الخليفة و تولى ابنه "عبد الرحمن الثانى" الخلافة. استقبله الخليفة الجديد بحفاوة بالغة. استمتع بصوته العذب و ألحانه السحرية كما استمع إلى رأيه فى مختلف العلوم و المعارف حتى أُعجب بثقافته الرفيعة فمنحه راتبًا شهريًا يُقدر بمائتى دينار بالإضافة إلى عشرين دينار لكل فرد فى أسرته بالإضافة إلى العقارات و البساتين.
لكن "أبو الحسن" لم يشغل نفسه بالمال، لم يحاول استغلال نفوذه لقربه من الخليفة، لم يشغل نفسه إلا بفنون الموسيقى حتى أصبح يُلقب بـ "زرياب"، إنه طائر أسمر صغير عذب الصوت. لم يستسلم للراحة و الدعة بل انكب على تطوير العود الذى كان يتكون من أربعة أوتار فقط فأضاف الوتر الخامس فى المنتصف. كما أنه صنع الأوتار من مصران شبل الأسد بدلًا من ذيل الحصان ثم صنع المضراب من ريشة النسر بدلًا من الخشب. هكذا أصبح العود أكثر سحرًا و أكثر نقاءً.
و لأنه يعلم دور الموسيقى فى تهذيب النفس، حول مسكنه إلى مدرسة لتعليم فنون الموسيقى. لم يكن يلقن طلابه الموسيقى فقط بل أشياء كثيرة هى ما نطلق عليه اليوم (الإتيكيت) مثل طريقة اختيار الملابس لتتماشى مع المناسبة و الوقت، التأنق فى الخطوات، طريقة تناول الطعام. اشتهرت مدرسته بسرعة حتى أصبح ملوك أوروبا يرسلون إليه أبنائهم لتهذيبهم.
كل كتب التاريخ تؤكد لنا موهبته الموسيقية بالإضافة إلى كتابة الكثير من الموشحات الأندلسية فى مختلف الموضوعات. الغرب يعترف بفضله فى تطوير العود و الكثير من الآلات الموسيقية، كما يذكرون فضله فى الإرتقاء بالشباب و تهذيب النفوس بألحانه. هذا يدفعنا إلى التساؤل عن العلاقة بين الموهبة و الذكاء، و ما هو المقياس الحقيقى للنجاح الفنى؟...

حسام أبو سعدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق