دراسة أدبية في قصيدة الشاعر اليمني االكبير أحمد الجابري....
( قسمة ونصيب )
********************
التفتيش عن قراءة نص أدبي محدد غاية ذاتية بإعتقادي تنطلق من اندغام المثقف بالنص الشعري ، الذي يستهويه ويشده إليه حسب ثقافته وفكره ، فالناقد مثلاً يبحث عن نص يكون مستعداً لمغازلته والخوض في سطوره وأبجدياته وأبياته الملهمة ، لما في هذه المفردات النصية من لغة كثيغة وبلا غة تصويرية ، وموسيقى ناضحة بالجمال .
فالقارئ المثقف هو من يقيم هذه العلاقة الحميمية بينه وبين النص المقروء، وأستبعد هنا تماماً القارئ المريض إذا جاز لي التعبير .
فالقارئ الواعي والناقد المثقف لا يناوش النص ويشاكسه ، ولكنه يحاوره ويستقرئ الآفاق الواسعة المصورة . ويتذوق جماله ولغته .
فالنص سابق على القراءة ، اذاً فهو يحدد المنهج المفترض في تحليله ، وليس العكس .
وسأقدم في هذه الالماحة قراءة لنصوص أدبية تسلب لب القارئ وتتملك وجده حين يسمعها أو يغوص في قراءتها .القصيدة المختارة هنا لا الحصر هى قصيدة ( قسمه ونصيب ) للشاعر اليمني الكبير الأستاذ أحمد الجابري .
الشاعر الأستاذ الكبير أحمد الجابري واحد من الشعراء الذين تميزوا بشعرهم الابداعي الخلاق أكان ذلك في الشعر الغنائي أو غيره من الشعر العام ، فهو واحد من الشعراء الذين أستوعبوا منجز القصيدة اليمنية والعربية العالية في وقت مبكر من بداية التجربة الأدبية شكلاً ومضموناً ، ولذلك لم يغرق في متاهات الغموض والهذيان الاابداعي فأطلت قامته الشعرية تعلن حضورها الأدبي المتميز بين أصوات الأدباء والشعراء في الساحة اليمنية والعربية وبشكل لافت وكبير ،
فقد غنى له الكثير من الفنانين في الساحة اليمنية والعربية منذ الخمسينات في القرن الماضي إلى الآن .
مع صرامة خاصة وحذر نقدي من استسهال طريق للنشر سمحا له بلاحتفاظ بمزايا نوعية لم تؤت سوى للقلائل من شعراء جيله الذين سقط بعضهم في دائرة الاستجرار ، والبعض الآخر فقد شخصيته في محاكاة الغير ..
فالأستاذ الجابري نهر لاينضب ، وبحر زا خر بالعطاء ولايزال هذا البحر يعزف الموسيقى العذاب ، يطرب الوجد ، ويشنف الآذان سماعاً .
وللأستاذ أحمد الجابري طريقه الخاص وتفرده المتميز في صياغة النص الشعري الجميل وعلى نمطه الخاص وتجربته الفذه المتميزة عن غيرها من التجارب الشعرية.
وفي قصيدته الغنائية لا الحصر ..
*( قسمه ونصيب ) *
والتي غناها الفنان اليمني الكبير أيوب طارش العبسي نجد هذه القصيدة كغيرها من قصائده الكثيرة المتوجة جميعها جمالاً وأدب ولغة وموسيقى ،نجدها تزخر بالمعان والأدب والموسيقى والوجد والمشاعر المرهفة الحواس ،
طير أيش بك تشتكي قللي أنا مثلك غريب
كلنا ذقنا هوانا وأكتوينا باللهيب ..
حد متهني وحد ظامي مفارق للحبيب
لاتقل لي أو أقلك كل شي قسمه ونصيب
جاء هذا الاسلوب الحواري العذب في موسيقاه في مخاطبة طائر مغرد فكان تغريدة شاعرنا واستفهاميته أكثر جمالاً وعزف من المخاطب وهو المغرد بصوته المعروف ، لكنه الشاعر المتميز بإنسياب لحنه ونبرات شجواه الملتاعة في النفس فتترك الأثر والرغبة في سماع المزيد من هذا العزف المنفرد .
لاتقل لي أو أقلك يستوقفه هنا ليقول له دع نثر الكلام على شفاهك المثخنة بهوى الصقور واسمعني فكان اللحن وكان النشيد .
ونلاحظ في أحد أبيات القصيدة الغنائية الرقراقة .
قبل منك كان هنا مثلي ومثلك عاشقين
ذوبوا الأشواق ماخلوا لنا غير الأنين
نشتكي نبكي نضيع في الهوى عمر السنين
غيرنا هم اللي،عاشوا واحنا بس الضائعين .
روعة في الكلمات وفن في المخاطبة تستوقف طائر الدان المغرد في غصنه المياس ليستمع هذه المثاليث من الأوتار الرقيقة الغناء التي تأتيه من فم شاعر رقيق الحس والخلجات .
والقافية هنا في القصيدة تأتي جديدة فذة اضافة إلى حميمية علاقتها فنياً بروح جسد القصيد تتكئ على قافية منسقة تطلق نفس القراءة لدى المتلقي ، وتستلهم أوتار العازف ، وبالتالي يصبح معادلاً للتنفيس والعزف على وجه الدقة ، والشاعر وهو يفرج عن الحالة الشعورية لحظة الكتابة نجد الموسيقى تتنفس كلماته كالنسيم وتتموسق مع جسد القصيد التي نفخ فيها الشاعر من روحه فغدت راقصة تدب فيها الحياة ، وتصبح هنا اللغة الشعرية عالية الكثافة هى المعادل الموضوعي لذلك .
عش حياتك لاتضيع لحظه وحدة في الوجود
لاتزعل بس روحك لاتفكر بالبعيد
لا الزمان يقدر يرجع عش حبك أو يعيد
الزمان لو فت بعمرك مستحيل يرجع جديد
بالأمل بالحب بكره يبتدي يصبح رحيق
والزهور اللي بصحارينا يذوبها البريق
حتى لون الفجر والأصباغ في وجه الطريق
بكره نصحى في هوانا واحنا والأيام نفيق
القصيدة من أولها إلى آخرها زاخرة باللغة الشعرية العالية ، والنغم الملهم للسامع والنفس والوجدان والجمال والطرب ، ولعمري بأن اللحن ولد من رحم القصيدة الموزونة كأوتار العود فافت ترانيم الموصلي في الأندلس ،
وفي هذا المقطع لا تظهر اللوحة الفنبة وحدها بل والجمالية أيضاً والتي تفوق الوصف في لغة حوارية رقيقة وجذابة وشيقة جداً ، تجذب الروح إليها .
حيث تشحن المفردات بالمعاني الجديدة وتصبح الأداة اللغوية أكثر رصانة وفي الايحاء والتعبير .
والزهور اللي بصحارينا يذوبها البريق..
من بخاطب الشاعر هنا ؟ هل الحضارة في وادي سبأ ،هل صحاري الوجد في مشاعرنا ..هو وحده من يجيد الكشف عن هذا ،
فهو غزير في معانيه وأبعاده ولغته ، ونراه يؤكد في نهاية قصيدته على امكانية التحول والعودة إلى الوضع الطبيعي مع بريق الأمل .
ولاحظ الجمال في ( بكره نصحى في هوانا ) لم يقل بكره نصحى من هوانا وهنا يكمن الجمال وحسن البناء، وهناك فرق طبعاً بين الاثنتين ( في هوانا ومن هوانا ) لايفهم ذلك إلا الراسخون في الشعر والمشاعر واللغة ، كماهو حال أديبنا الكبير الأستاذ أحمد الجابري ..
حتى الملتقى في دراسة أخرى
****************
لأستاذ الشاعر والناقد/ عارف محمد عبدالجليل الهجري
20 اكتوبر 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق