يغادر المدينة الصّغيرة الوادعة, شاب يافع, يضرب ويسعى للعلم للرزق في بلاد الله الواسعة، يغيب طويًلا, يستسلم لتيار الحياة يأخذه بعيدًا بلا حول ولا قوّة يهيم يتخبّط.. هو غارق في حمّى رزق وفير لا يستطيع الخلاص من تحكّمه وإغراءاته, في المال لذة شهوانيّة كبرى مستعرة لا يرتوي منها لا يشبع ولا يقنع, يعاقرها تتسلّط عليه وعلى وعيه بالزّمن. يتخدّر صوت الساعة في ذاته ويغور، يحسب حساب العودة بطريقة إقتصاديّة، تجارة (بزنس) العودة سلعة خاسرة ستفقده مبالغ ستأتيه. يؤجّل العودة إلى الدّيار ريثما تبلغ الثروة مائة ألف, بل المليون الأوّل فالثاني، تتوالد الملايين كما الأرانب وهو ساه غافل عمّا سواها, يطربه تناسلها، يطربه صوتها (ضغيبها) وينسى الدّيار.
آخرون كمثله لكن لم ينالوا حظّهم من ثراء، لا فاحش ولا طّافش. لم يفلحوا في غربتهم. دخلهم على (القدّ) لا يوفرون فلسا. يحنّون إلى المدينة مسقط رؤوسهم، لكن هل يعودون بخفّي حنين لا مال ولا جاه لديهم؟! (أيد من ورا وأيد من قدّام). يؤجّل هؤلاء العودة خجلا من فضيحة العودة مع الطّفر. فأهالي المدينة يتملّقون العائد المغترب بل البعض يرى فيه صيدا ثمينا سمينا, يعتبرون أنّ كلّ من تغرّب, حتما... ثري، وما طالت غربته لولا نهر الأوراق الخضر الذي يسبح فيه
يصحو صاحبنا فجأة ثريا كان أم (طفرانا) وقد كلّله الشيب أو عصف به الصّلع, وقد ضعف المحرّك في جسده، تروسه بريت أسنانها, سكّري يفور، ضغط يثور وقلب يتعب ويخور. يتذكّر مدينته/قريته يحنّ, ولكن. الإنسان بطبعه يحنّ إلى مسقط رأسه الأوّل ليكون مكانا لسقوطه الأخير, يلوذ بأحضان أمّه–بلده عندما تضيق الدّنيا في وجهه، كما يلجأ إلى الله عز وجل.. في الشّدّة. تحين السّاعة, يجمع عظامه الجلد والفتات ويقرّر العودة. قد لا يطاوعه بعض من العيال ممّن يَرِثون النّزوع الى البعد عن الوطن في بداياتهم كمثله. البعض لا يسعفهن القدر بالعودة من مرض شديد, رحيل مفاجئ أو من قصر باع في اتخاذ قرارالعودة في الوقت المناسب.
يعود إلى مدينته.يتفقّد الطّرقات الدار الحجر البشر الزّهر والشّجر. يشمشم كلّ زاوية وركن. يدخل دار ابيه, داره, ينادي (يمّاااا)لا أحد يرد.أطفال صغار ووجوه لا يعرفها تحتلّ المكان. صورة أبيه يوم كان. يهرع ألى سوق المدينة يمرّ بدكّان أبي سالم البقّال, أبي العبد الفرّان أبي السّعيد الطّحّان وسْمُكَّه العجلاني و بائع الحمّص والفلافل الخضرجي وبيّاعة اللّبن...لا يجد أحدا، الوجوه تغيّرت. مباني ودور هدمت وحارات قوّضت تفجّر مكانها عمالقة من حجر وحديد ودخان, وأطلال قصر البيك تنعي صبيّة زيّنته، والنافورة قد جفّ ماؤها وسط حدائق جافّة باهتة تشقّقت أدمتها. يهرع ليعيش طفولته في الساحات حيث كان يلعب السبعة أحجار و الچلول و الغمّيضة. يمرّ من تحت شباك صديقه عبّود، يصفّر كي يطلّ وينزل ليصيعا معا، يسرقا الأسكدنيا والمشمش من حديقة أبي حسّون البخيل النّكد، يلج يعبر ساحة وصفوف المدرسة وحجرة الأساتذة، لا يعرف أحدًا كلّهم أصغر منه سنًا، ينظرون اليه باستغراب,ينكرون إقتحامه بلا استئذان والبحث عمّا و عمّن!! هم مشدوهون وهو مشدوه مصدوم مشدود تائه ضائع يشعر بغربة شديدة بل فزع وخوف.
تشدّه صورأشخاص يعرفهم معلّقة على الجدران(خلف مقاعد المكاتب) صورة أبيه الراحل و أصحاب الحوانيت. في بلادنا نضع صور من رحلوا قبلنا... خلف ظهورنا, يرى ذاته بعد الرّحيل في كلّ صورة لكن... قبل الرّحيل. يشعر أنّ زمنه قد ولّى,غريبًا وحيدًا في دنيا أخرى حياة أخرى، لا الرّبع ربعه ولا الزّمن زمنه. تطفر دمعة من عينيه, يستدير ويهيم في حواري المدينة يسعل يلهث وآلام الظّهر تقطع ظهره. يبحث في عتم اللّيل عن كرة جراب أضاعها منذ قليل... قبل خمسين عاما.
يا ابن بلدي ومدينتي يا رعاك الله: لماذا لا نستمتع بوطننا أرضا وسماء نهرا وبحرا وطيرا وزهرا ونحن قادرون؟ لماذا نعتبره ملجأ عجزة و.. فقط. نحمّله أعباءنا.لماذا نهجره نحرمه من خيرنا ونحن شباب رجال قوّتنا وعصبنا فينا نحمِله يافعون كما سيحملنا عجزة. أرض الوطن يا وِلداه للفلاحة والحصاد وللبناء لمصلحة الاجيال وليست كمثوى أخير يحملك في باطنه و...فقط. مع ذلك، هو كالأمّ ستجدها دومًا في انتظارك وبالأحضان كيفما كنت و... من المهد إلى اللّحد.. فعد قبل الأوان.
mbyaish@gmail.com
آخرون كمثله لكن لم ينالوا حظّهم من ثراء، لا فاحش ولا طّافش. لم يفلحوا في غربتهم. دخلهم على (القدّ) لا يوفرون فلسا. يحنّون إلى المدينة مسقط رؤوسهم، لكن هل يعودون بخفّي حنين لا مال ولا جاه لديهم؟! (أيد من ورا وأيد من قدّام). يؤجّل هؤلاء العودة خجلا من فضيحة العودة مع الطّفر. فأهالي المدينة يتملّقون العائد المغترب بل البعض يرى فيه صيدا ثمينا سمينا, يعتبرون أنّ كلّ من تغرّب, حتما... ثري، وما طالت غربته لولا نهر الأوراق الخضر الذي يسبح فيه
يصحو صاحبنا فجأة ثريا كان أم (طفرانا) وقد كلّله الشيب أو عصف به الصّلع, وقد ضعف المحرّك في جسده، تروسه بريت أسنانها, سكّري يفور، ضغط يثور وقلب يتعب ويخور. يتذكّر مدينته/قريته يحنّ, ولكن. الإنسان بطبعه يحنّ إلى مسقط رأسه الأوّل ليكون مكانا لسقوطه الأخير, يلوذ بأحضان أمّه–بلده عندما تضيق الدّنيا في وجهه، كما يلجأ إلى الله عز وجل.. في الشّدّة. تحين السّاعة, يجمع عظامه الجلد والفتات ويقرّر العودة. قد لا يطاوعه بعض من العيال ممّن يَرِثون النّزوع الى البعد عن الوطن في بداياتهم كمثله. البعض لا يسعفهن القدر بالعودة من مرض شديد, رحيل مفاجئ أو من قصر باع في اتخاذ قرارالعودة في الوقت المناسب.
يعود إلى مدينته.يتفقّد الطّرقات الدار الحجر البشر الزّهر والشّجر. يشمشم كلّ زاوية وركن. يدخل دار ابيه, داره, ينادي (يمّاااا)لا أحد يرد.أطفال صغار ووجوه لا يعرفها تحتلّ المكان. صورة أبيه يوم كان. يهرع ألى سوق المدينة يمرّ بدكّان أبي سالم البقّال, أبي العبد الفرّان أبي السّعيد الطّحّان وسْمُكَّه العجلاني و بائع الحمّص والفلافل الخضرجي وبيّاعة اللّبن...لا يجد أحدا، الوجوه تغيّرت. مباني ودور هدمت وحارات قوّضت تفجّر مكانها عمالقة من حجر وحديد ودخان, وأطلال قصر البيك تنعي صبيّة زيّنته، والنافورة قد جفّ ماؤها وسط حدائق جافّة باهتة تشقّقت أدمتها. يهرع ليعيش طفولته في الساحات حيث كان يلعب السبعة أحجار و الچلول و الغمّيضة. يمرّ من تحت شباك صديقه عبّود، يصفّر كي يطلّ وينزل ليصيعا معا، يسرقا الأسكدنيا والمشمش من حديقة أبي حسّون البخيل النّكد، يلج يعبر ساحة وصفوف المدرسة وحجرة الأساتذة، لا يعرف أحدًا كلّهم أصغر منه سنًا، ينظرون اليه باستغراب,ينكرون إقتحامه بلا استئذان والبحث عمّا و عمّن!! هم مشدوهون وهو مشدوه مصدوم مشدود تائه ضائع يشعر بغربة شديدة بل فزع وخوف.
تشدّه صورأشخاص يعرفهم معلّقة على الجدران(خلف مقاعد المكاتب) صورة أبيه الراحل و أصحاب الحوانيت. في بلادنا نضع صور من رحلوا قبلنا... خلف ظهورنا, يرى ذاته بعد الرّحيل في كلّ صورة لكن... قبل الرّحيل. يشعر أنّ زمنه قد ولّى,غريبًا وحيدًا في دنيا أخرى حياة أخرى، لا الرّبع ربعه ولا الزّمن زمنه. تطفر دمعة من عينيه, يستدير ويهيم في حواري المدينة يسعل يلهث وآلام الظّهر تقطع ظهره. يبحث في عتم اللّيل عن كرة جراب أضاعها منذ قليل... قبل خمسين عاما.
يا ابن بلدي ومدينتي يا رعاك الله: لماذا لا نستمتع بوطننا أرضا وسماء نهرا وبحرا وطيرا وزهرا ونحن قادرون؟ لماذا نعتبره ملجأ عجزة و.. فقط. نحمّله أعباءنا.لماذا نهجره نحرمه من خيرنا ونحن شباب رجال قوّتنا وعصبنا فينا نحمِله يافعون كما سيحملنا عجزة. أرض الوطن يا وِلداه للفلاحة والحصاد وللبناء لمصلحة الاجيال وليست كمثوى أخير يحملك في باطنه و...فقط. مع ذلك، هو كالأمّ ستجدها دومًا في انتظارك وبالأحضان كيفما كنت و... من المهد إلى اللّحد.. فعد قبل الأوان.
mbyaish@gmail.com

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق