الخميس، 29 ديسمبر 2016

وداعاً سيادة الرئيس (1). تأليف: جابريال جارثيا ماركيز، ترجمة حسام أبو سعدة.

وداعاً سيادة الرئيس (1).
 تاءليف: جابريال جارثيا ماركيز، ترجمة حسام أبو سعدة.

جلس وحيداً فى الميدان تحت ظل شجرة ذابلة ممسكاً عصاه بكلتا يديه. شرد ببصره يتأمل البحيرة، لا يفكر فى شىء سوى الموت..
 فى اليوم الأول لحضوره إلى "جنيف" كانت البحيرة صافية هادئة فتهبط النوارس فى هدوء تنقر يديه. تظهر فتيات الهوى من الساعة السادسة يرتدين تنورات ملونة يمسكن بشمسيات من القماش، لم ينجح حتى الآن مع أى منهن سوى بائعة الورد، هى الوحيدة التى تشاركه خراب روحه فى هذا العالم.

لم يكن إلا شخص غريب فى بلد تشتهر بالغرباء المشاهير. يرتدى سترة فى لون زرقة السماء ياقتها بيضاء و قبعة صلبة غاية فى الأناقة، شاربه يدل على الشموخ و الكبرياء، شعر كثيف متموج فى رومانسية، يرتدى فى يده اليسرى خاتم يدل على أنه أرمل، عيناه براقتان، لا تظهر حالته الصحية إلا من خلال بشرته المجهدة. بالرغم من بلوغه الثالثة و السبعين مازال فى غاية الأناقة، إلا أنه يشعر بأن أعوام الانتصارات و المجد قد ذهبت إلى غير رجعة و لا يبقى له سوى الموت.
لقد عاد إلى "جنيف" بعد الحربين العالميتين بحثاً عن علاج لآلامه التى فشل جميع أطباء جزر المارتينيك فى تشخيصها. فى البداية اعتقد أن الأمر لن يستغرق أكثر من أسبوعين، لكن ها هو قد مر عليه ستة أسابيع دون جدوى. فحصوه كثيراً، أجروا له الكثير و الكثير من التحليلات، بحثوا عن مصدر الألم فى الكبد، الكلية، البنكرياس، البروتستاتة دون جدوى، إلى أن حدد له أحد الأطباء موعداً اليوم الخميس فى التاسعة صباحاً.
كانت الحجرة متقشفة مثل حجرة الرهبان، جلس الطبيب الذى كانت يده اليمنى مغلفة بالجبس نتيجة كسر فى إصبعه، أضاء النور فظهرت على الشاشة صورة فوتوغرافية لعمود فقرى، أشار بعصا صغيرة إلى وصلة بين فقرتين قائلاً:
 - الألم يأتى من هنا.

لم يفهم شيئاً. الألم غير محتمل، يتنقل من الجهة اليسرى إلى أسفل بطنه، غالباً ما يهاجمه بشراسة فى فخذه. استمع الطبيب إليه باهتمام ثم قال دون أن يرفع عصاه من على الشاشة "هذا هو ما أربكنا" ثم أكمل بثقة: " نحن واثقين، سيادة الرئيس، أن الألم يأتى من هنا".
علم الرئيس أنه يجب إجراء عملية جراحية خطيرة لكن لا مفر منها، سأل عن المخاطر فقال الطبيب:
 - لا أستطيع تحديد شىء.

ثم أردف قائلاً:
ـ منذ بضعة سنوات، كان هناك احتمال الموت أو الشلل. لكن الطب تقدم كثيراً بين الحربين حتى أن هذه المخاوف تلاشت الآن. 
ثم أكمل قائلاً:
 ـ لا داعى للقلق. رتب أمورك ثم أخبرنى بقرارك، و لا تنسى أنه من الأفضل التعجيل بالعملية.

لم يكن يوماً مناسباً لمثل هذه الأخبار السيئة. لقد خرج من الفندق مبكراً جداً دون ارتداء المعطف بعد أن رأى الشمس ساطعة من خلال النافذة. بعد أن أنهى لقاء الطبيب عاد إلى ميدان الإنجليز الذى يعتبر ملاذاً سرياً للعشاق. جلس هناك لمدة ساعة كاملة لا يفكر فى شىء سوى الموت. فجأة أتى الخريف، إضطربت البحيرة كأنها محيط مجنون، زمجرت الرياح تكنس أوراق الشجر ففزعت النوارس. هب الرئيس واقفاً، إلتقط وردة من الأرض وضعها فى ياقة سترته، نظرت إليه بائعة الورود شذراً ثم قالت:
 - هذه الورود ملك للمحافظة و ليست للبيع.

لم يلتفت إليها، إبتعد بخفة و رشاقة. على الجسر لاحظ تنكيس الأعلام من تأثير العاصفة كما لاحظ أن أضواء النافورة قد أضيئت قبل موعدها. فى بداية الأمر لم يعرف قهوته المعتادة على الرصيف المقابل بعد أن رفعوا المناضد من على الرصيف المزهر و أسدلوا الشمسيات. فى الداخل كانت الأنوار مضاءة فى وسط النهار، تنبعث موسيقى "موتسار" من عازف الكمان. أخذ الجريدة المخصصة للزبائن من على البار، ترك قبعته وعصاه فى المكان المخصص ثم إتجه إلى منضدة منزوية بعيدة. أخرج نظارته الذهبية و راح يقرأ الجريدة بالعكس، بدأ من الصفحة الأخيرة- التى تنشر الأخبار الدولية بحثاً عن أخبار بلده – إلى الصفحة الأولى، منتظراً النادل يحضر له زجاجة المياه المعدنية المعتادة. لقد إبتعد عن تناول القهوة منذ ثلاثين عاماً كما أمره الأطباء، لكنه قال لهم أنه سيعود إلى تناولها عندما يستشعر دنو أجله. على ما يبدو، آن الأوان. طلب فنجان قهوة ثم أردف:
 ـ قهوة إيطالية توقظ الموتى.

إرتشف قهوتة السادة فى هدوء ثم قلب الفنجان على الطبق. تذكر أنه قد مضى عليه وقتاً طويلاً دون قراءة طالعه. إنتزعته رائحة البن من أفكاره السوداوية، و فجأة شعر بوجود شخص يرقبه. طوى صفحة الجريدة بحركة خفيفة و نظر من أعلى نظارته فوجده رجلاً شاحباً ذقنه خشنة يغطى رأسه بقبعة خفيفة، يرتدى سترة من جلد الضأن. أدار الرجل عينيه حتى لا يلتقى بنظرات الرئيس... هذا الوجه ليس غريباً عنه. لقد لاحظه من قبل فى ممرات المستشفى، كما قابله و هو يقود دراجة بخارية فى الميدان. لكنه لا يعرفه. ليس مستبعداً أن يكون أحد الأشباح المكلفين بتعذيب المنفيين.
بعد أن فرغ من قراءة الجريدة عاوده الألم، أخرج ساعتة الذهبية الصغيرة من جيب الصديرى ثم إبتلع حبتين مسكنتين. قبل أن يخلع نظارته قرأ طالعه فى الفنجان فداهمه الألم فى ظهره، قال فى نفسه إنهم يشكون فى الغضروف. وأخيراً راجع فاتورة الحساب جيداً ثم ترك بقشيشاً شحيحاً. أخذ قبعته وعصاه و انصرف بخطوات مرحة وهو يدوس الأزهار المتساقطة على الأرض. شعر برجل يتبعه، إستدار بسرعة فوجده أمامه، نظر إلى عينيه بثبات فغمغم الرجل قائلا:
- سيدى الرئيس.
قال الرئيس مبتسماً فى تحد:
- قل للذين يدفعون لك "لا داعى للأوهام" فإننى فى صحة جيدة.
قال الرجل فى كبرياء: 
ـ لا أحد يعرف حالتك الصحية أكثر منى، فإننى أعمل فى المستشفى. 
أسلوب الرجل، هيأته، خجله، كل شىء يدل على إنه "كاريبى" أصيل، قال الرئيس ساخراً:
- لا تقل لى أنك طبيب.
- للأسف لست إلا قائد عربة الإسعاف.
- معذرة. إنه عمل شاق.
- ليس بمثل مشقة عمل سيادتك.
وضع الرئيس كلتا يديه على عصاه و هو يتأمله جيداً ثم سأله:
- من أى بلد؟
- الكاريبى.
- أعلم ذلك، لكن من أى بلد؟
- من نفس بلد سيادتك.
ثم مد الرجل يده مصافحاً و هو يقول:
- إسمى "هوميرو".
 - إسم جميل.

هبت رياح الشتاء الباردة فارتعشت كل خلايا جسده، إنه لن يستطيع الوصول إلى المطعم الفقير المعتاد الذى يبعد مئات الأمتار، فسأله:
- هل تناولت غذائك؟
- أنا لا أكل إلا مرة واحدة فقط، فى بيتى مساءً.
قال الرئيس فى ابتهاج:
 - اليوم حالة إستثنائية سأعزمك على الغذاء.

إصطحبه من يده إلى المطعم الموجود على الرصيف المقابل. كان اسم المطعم محفوراً بحروف من الذهب "البقرة ذات القرون". فى الداخل المكان ضيق لكن دافىء. لا يوجد منضدة واحدة خالية. تعجب "هوميرو" من أن لا أحد هنا يعرف الرئيس. وقفا وسط المطعم فأتى إليهما صاحبه و سأل: 
- هل هو رئيس تحت التمرين؟
أجاب "هوميرو":
- بل إنه رئيس مخلوع.
قال صاحب المطعم مبتسماً:
- لدى مناضد لمثل هؤلاء الأشخاص.
ثم قادهما إلى منضدة بعيدة منزوية حيث يستطيعا الحديث فى هدوء. قال "هوميرو":
 - لا أحد يعرف مرارة المنفى مثل سيادتك.

إلتفت الرئيس وضيفه يلقيان نظرة على المناضد المجاورة. الوجبة الرئيسية هى اللحم المشوى مع بعض الدهن. قال الرئيس:
- اللحم مغرى، لكنه ممنوع عنى.
ثم أكمل:
- فى الحقيقة كل شىء ممنوع عنى.
قال " هوميرو" مبتسماً:
- القهوة أيضا ممنوعة عنك، و مع ذلك تناولتها اليوم.
- هل لاحظت ذلك، إن اليوم إستثناء.
 طلب الرئيس طبق من اللحم مع سلطة الخضراوات، و طلب ضيفه نفس الشىء.

فى إنتظار الغذاء أخرج "هوميرو" من جيبه محفظة خالية من النقود لكنها عامرة بقصصات الورق، أخرج منها صورة قديمة أعطاها للرئيس الذى رأى نفسه يقف ممشوق القوام فى كبرياء وسط مجموعة كبيرة من الشباب يقفون على أطراف أصابعهم حتى يظهروا فى الصورة.. من أول وهلة عرف الرئيس المكان و الزمان بعد أن رأى شعار الحملة الإنتخابية الحقيرة، أعادها إليه و هو يتمتم : لقد أصبحت عجوزاً الآن. ثم قال:
ـ مازلت أذكر كل شىء. أُخذت هذه الصورة فى ميدان مصارعة الديوك فى مدينة "لاس كازاس".
ـ إنها مدينتى.
أعاد إليه الصورة و هو يشير إلى نفسه:
ـ أنظر، إننى هنا.
ـ كنت مراهقاً صغيراً.
ـ خضت الحملة الإنتخابية إلى جوارك فى كل المدن.
قال الرئيس فى عناد:
- بالرغم من ذلك فإننى لم أرك من قبل.
- بالعكس، لقد كنت مهذباً مع كل الناس لكننا كنا كثرة حتى إنك لا تذكرنى.
- و ماذا بعد؟
 - لا شىء، إنها معجزة أن أنول شرف الغذاء معك بعد إنتهاء الحرب الأهلية.

أتى النادل بأطباق اللحم. لف الرئيس المنشفة حول رقبته مثلما يفعل الحلاق، ثم نظر إلى ضيفه و بادره قائلاً:
- إذا لم أفعل ذلك سأضطر إلى تغيير رباط العنق بعد كل وجبة.
إختبر مدى نضج اللحم قبل الأكل ثم قال:
 - لماذا لم تعرفنى بنفسك منذ البداية بدلاً من ملاحقتى مثل الجواسيس.

قص عليه "هوميرو" إنه عرفه منذ أول لحظة، عندما رآه فى أول زيارة له فى المستشفى. كان ذلك فى عز الصيف، رآه يدخل من الباب مرتدياً سترة من الكتان، حذاء أبيض و أسود، شعره يتطاير من أثر الهواء، يضع وردة فى ياقة السترة. علم أنه يعيش بمفرده فى "جنيف". فهو يعرف المدينة التى أمضى بها سنوات الدراسة جيداً.. أخبر زوجته فى نفس الليلة فقررا محاولة الاتصال به، لكنه فضل المراقبة و المتابعة منتظراً حتى يبدأ الرئيس بالمبادرة. قال الرئيس:
ـ ليتك ما فعلت، بالرغم من قسوة الوحدة.
ـ لماذا؟ 
ـ لأن كل ما أسعى إليه الآن هو أن ينسانى الناس.
ـ إننا نفكر بك أكثر مما تتصور.
قال الرئيس بهدوء:
ـ و مع ذلك فإن كل شىء يدل على أننى سأموت قريباً.
ـ هناك أمل كبير فى العملية.
إرتجف الرئيس ثم قال :
ـ لا تقل لى أنك تعلم كل أسرار المرضى.
ـ في كل مستشفيات العالم لا يوجد أسرار على سائق الإسعاف .
ـ لقد علمت بالحقيقة منذ ساعتين فقط.
ـ على كل حال فإن حياتك لن تضيع هباءً، ستظل دائماً رمزاً للشرف و الكرامة. 
 إبتسم الرئيس مازحاً: 
ـ شكراً لأنك أخبرتنى بالحقيقة.

عاد لتناول غذائه بهدوء و ثقة، ثم رمى ضيقه بنظرة ثاقبة حتى أشعره بأنه يقرأ كل أفكاره و قال: 
ـ كنت قررت ألا أشغل نفسى بجثتى لكن يبدو الآن أننى سأقوم ببعض الأعمال البوليسية حتي لا يتعرف على أحد. 
حاول "هوميرو" المزاح قائلاً: 
ـ لا داعى لذلك ، فإن الأسرار لا تستمر أكثر من ساعة فى المستشفى.

تناولا القهوة سوياً، قلب الرئيس فنجانه ليقرأ طالعه فداهمه الألم فى ظهره، الرسالة لا تتغير. دفع الحساب بعد أن راجعه أكثر من مرة و بعد أن عد النقود أكثر من مرة ترك بقشيشاً زهيداً ثم قال محاولاً التهرب: 
ـ لم أقرر إن كنت سأوافق على العملية أم لا، لكن على كل حال إذا سارت الأمور بصورة جيدة سنتقابل فى المستقبل.
إندفع "هوميرو": 
ـ لماذا لا نتقابل قبل العملية؟ زوجتى "لازارا" تطبخ للأثرياء، تتقن صنع الأرز بالجمبرى، سنكون سعداء بدعوتك.
ـ فواكه البحر ممنوعة عنى، لكنى سأكون سعيداً بأكلها. متى؟
ـ أجازتى يوم الخميس.
ـ إتفقنا، سأكون عندك يوم الخميس فى السابعة مساءً.
بادر "هوميرو" قائلاً:
ـ سأتى إليك فى الفندق 14 شارع الصناعة خلف محطة القطار لأصطحبك إلى بيتى.
قال الرئيس مازحاً:
ـ أعتقد إنك تعرف مقاس حذائى.
ـ واحد وأربعين.
* التكملة الخميس القادم، إن شاء الله.
* من كتاب "12 قصة مهاجرة"، جابريال جارثيا ماركيز، ترجمة حسام أبو سعدة، دار الكتاب العربى.
حسام أبو سعدة.
 hossamaboseda@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق