الأربعاء، 28 مارس 2018

عزف الرياح الليلية بقلم / د. بومدين جلالى


عزف الرياح الليلية...
........................
كان الليل ثابتا في مكانه وأنا جالس مع وحدتي في مكتبي القادم من زمن آخر، وكانت رياح الشتاء المتأخر قليلا تعزف مقاطع ليلية غامضة نابضة بما تحكيه زخاتٌ مطرية وشذراتٌ ثلجية متعاقبة في حركة جنونية وهي تداعب زجاج نافذتي الصّامد الصّاغي بمتعة فيها شيء من بقايا الأجيال الحكواتية التي وقفتْ واستوْقفتْ ومتّعتْ واستمتعتْ هنا وهناك حتى طرب لها ثم بكى منها هذا وذاك ...
لا أدري هل هذه الحالة الطبيعية الفارحة النائحة أهي ملهاةٌ أم مأساة أم جنس آخر من الأجناس الإبداعية التي عاشها الإنسان فنّاً ولم يعشها واقعاً أو عاشها واقعا ولم يعشها فنّا أو امتزج فيها حابله بنابله وذهب يخبِط خبْط عشواء في مساراته المتقاطعة بحكايا الطبيعة التي تقول كل شيءٍ ولا شيءَ بِبيانٍ ما بعده بيانٌ ؟!؟! ...
أخرجتْني هذه الرياح المطرية الثلجية بعزفها الضارب في غيْب العزف من طبقاتي الليلية الثقيلة ورحلتْ بي على أجنحة معزوفاتها العبقرية إلى شتاءاتٍ صبيانية كان فيها الألمُ أملا والرهبة رغبة وكلُّ حركة متعةً تصْعد الروح معها إلى السماء وتتحوّل فيها كل الأصوات إلى غناء ويتجسد جمالها في الماء والهواء ولحظات العناء عندما يحْلوْلى الكلام كما يحْلوْلى الصمْت بما فيهما من إغواء وإغراء وشوق شاعر ببعض تعارُضات الخلود بالفناء كما تحيل عليه شبيهاتها من تعارضاتِ خريفِ الربيعِ بِصيْفِ الشتاء ...
هنا يظهر وجه أمي وهي تدثّرني بلطف زائد وعينين باسمتين حائرتين عشْقا للزمن البارد وخوفا منه، وقلبها يقول :
- خذ حذرك ... إياك والتهاون مع البرودة ... لا تبتعد كثيرا عن البيت ... لا يغيب الشتاء حتى تخْضَرّ جميع الأشجار وتغرّد العصافير عند شروق كل نهار ... احذرْ ... احذر ... احذر ...
وهنا يظهر وجه أبي وهو يشجّعني بعنف زائد وعينين باسمتين واثقتين حبّا في الزمن البارد وتحديّا له، وعقله يقول :
- اتركيه يكبر ... لا تخف من برودة ولا حرارة ... الحياة هكذا ...خذ حظك كأقرانك ولا تنتظر أن يخضرّ شيءٌ أو يُغرّد أحد ... احذرْ في حدود ... في حدود ضيّقة ... ضيّقة جدا ... 
إيه كم كانت أمّي حكيمة مؤثرة وكم كان أبي حكيما مؤثرا !!
سرت في الحياة سيرا طويلا متقلبا ما بين العسر واليسر، وظل الحذر يرافقني في منطلق كل أمر ثم يتقلص تدريجيا إلى أن يصل إلى حده الضيق جدا جدا، وأنا أصغي للصوتين المبعثرين في صدى الصمت البعيد وأرى البسمتين المتواريتين خلف دهاليز الأيام وهما تقرآن لي توازنات اللطف والعنف في كل خطوة يخطوها الإنسان ...
إيه كم هي معقدة متشابكة متعارضة متصارعة عناصرهذه الحياة !!
ما إن يجد المرء حلّا لمسألة من مسائلها البسيطة العادية أو المركبة الغارقة في التركيب حتى تتولّد منها ألف مسألة ومسألة أخرى، وتبقى حكمتا أمي وأبي القائلتان بالحذر واللاحذر من مفاتيح مواصلة السير في تلافيفها الغريبة العجيبة بلطف وعنف لا يختفيان أبدا من كينونة الوجود مادام وجودا ... 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السبت 24 مارس 2018 
إمضاء : الأستاذ الدكتور بومدين جلالي - الجزائر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق