الخميس، 10 أغسطس 2017

17 أكلة لحوم البشر. بقلم الكاتب حسام أبو سعدة.

17 أكلة لحوم البشر.
فتافيت الخبز التى يلقيها فى الترعة لجذب الأسماك تحدث دوامات خفيفة صغيرة. الدوامات تتداخل و تتشابك ثم تختفى لتظهر دوامات غيرها. بعد حوالى نصف الساعة تجمعت الأسماك تحت قدميه. لكن النقيب "عماد" لا يرى شيئًا. الدوامات فى عقله شديدة و عنيفة، تتجاذبه من كل ناحية. الصور تلف و تدور حوله. "نهال"، "صابرين"، "شاهيناز"، العميد "البهنساوى"، و "محمد منير" بسمرته المحبوبة. دوران الصور السريع المتلاحق أصابه بالدوار فراح يتجول بجوار الترعة و هو يدندن أغنية "إزاى".
اشتم رائحة السمك المشوى. ربما يكون الجوع. لقد أصبحت وجبته ضئيلة جدًا فى الفترة الأخيرة. يأكل دون أى شهية لمجرد تفادى الشجار مع والدته أو مع "نهال". اتجه نحو أحد الصيادين و طلب منه شراء السمك لكن الصياد رفض لأنه مجرد هاو لا يبيع السمك ثم أخبره أنه سيجد كوخ "عم سعيد" على بعد عشر دقائق سيرًا على الأقدام بجوار الترعة.
راح يكمل سيره و هو مازال يدندن أغنية "إزاى". من بعيد لمح الكوخ البدائى المصنوع من فروع الأشجار. أمام الكوخ شواية كبيرة و قلاية كبيرة. لا يوجد مكان للجلوس، واضح أنه ليس مطعمًا، بل يبيع الأسماك فقط.
فى هذا الجو الهادئ حيث الخضرة تمتد على الجانبين حتى الأفق يتوسطها الترعة الرائقة، حيث الهواء الطازج الممزوج برائحة النباتات و الأشجار العالية التى تحد الطريق من الجانبين، تذكر "نهال". يتمنى أن تكون بجواره الآن لتناول هذه الوجبة الطازجة وهما يجلسان على الأرض تحت ظل شجرة ضخمة. و لا بد أن تكون "صابرين" معهما، لا بد من وجود هذه الطفلة المشكلة. إنها لا تزال ترفض الخروج من حجرتها مهما كانت الإغراءات.
تقدم نحو الكوخ. عندما حاول الصياح لينادى على صاحبه اكتشف ضعفه، ربما يكون هذا الضعف ناتجًا عن قلة الطعام، أو شدة دوامات العقل. وقف برهة يستجمع أنفاسه ثم صاح: عم "سعيد".
ظهرت عيون عم "سعيد" من شباك الكوخ. ضوء النهار جعل داخل الكوخ يبدو معتمًا لكن بريق عينىّ عم "سعيد" كان واضحًا. بريق خاطف يمتزج بالقلق و الفزع و الرهبة. التمعت عيناى النقيب "عماد" هى الأخرى. التقاء النظرات كان مدويًا، أو ربما هدير نبضات القلب الحادة العنيفة كأنه على وشك الموت أو على وشك البعث و عودة الروح. قال النقيب "عماد" بصوت مرتجف مذهول:
ـ تعال يا عم "سعيد".
خرج عم "سعيد" مرتبكًا. يرتدى جلبابًا رماديًا متسخًا و شبشب قديم، قدماه متسختان بالطين، يطلق لحيته و شاربه فى إهمال، و شعره أيضًا، لكن لحيته تدّل على الإهمال و ليست لأى أسباب دينية. استجمع عم "سعيد" شجاعته ثم قال فى تحد:
ـ نعم.
انتفض كل جسد النقيب "عماد" ثم قال فى تهدج:
ـ سيادة العميد... العميد "البهنساوى".
قال عم "سعيد" فى ثقة:
ـ أنا عم "سعيد".
قال النقيب فى تحد:
ـ العميد "البهنساوى "... "البهنساوى".
ثم جرى نحوه و احتضنه بقوة و هو يبكى. التفت يداى العميد حول النقيب الصغير و احتضنه بقوة أشد.
بعد أن هدأت نوبة البكاء و الانفعال، قال النقيب "عماد":
ـ هل تعلم أنهم لم يذكروا اسمك ضمن قتلة الثوار؟ لا أحد يطلب القصاص منك؟
أشار له العميد "البهنساوى" بالجلوس على الأرض ثم جلس بجواره و هو يقول فى أسى:
ـ لا أتابع الأخبار و لا يهمنى معرفتها.
ـ أؤكد لك أنه لا داع للهرب.
ـ إذا لم يطلب الناس القصاص منى، فلابد أن أقتص من نفسى بنفسى. لقد حاولت الانتحار. أعلم أن الانتحار كفر و آخرته جهنم. و أعلم أننى أستحق ذلك. لكنى فى النهاية إستسلمت لقضاء الله و ليفعل ما يشاء.
قال النقيب "عماد" مهونًا:
ـ إنها أوامر عسكرية، و لا أحد يجرؤ على تكسير الأوامر.
ضحك العميد ساخرًا و هو يقول:
ـ أعلم ذلك.
ـ إذن، لا داعى لعقاب نفسك بهذا الشكل.
تنهد العميد "البهنساوى" و قال:
ـ هل تذكر يوم أصدرت لك الأمر بإطلاق النار؟
ـ طبعًا، هذا يوم لا ينسى أبدًا.
ـ هل تعلم ماذا رأيت فى الميدان؟
ـ الشباب الثائر.
قال العميد فى حدة:
ـ لم يكونوا شبابًا فقط. كانوا شبابًا و أطفالًا و عجائز. كانوا رجالًا و نساءً. لمحت بينهم من يجلس مشلولًا على مقعد ذى عجلات، لمحت بينهم عاجزين يستندون إلى عكازات. كان أمامنا جدار إحدى العمارات. أمام هذا الجدار رأيت شابًا...
بكى العميد "البهنساوى" و صمت قليلًا محاولًا التماسك ثم قال:
ـ رأيت شابًا وسيمًا يرسم لوحة جدارية على الجدار. هذا الشاب الصغير الوسيم الحالم كان يحب إحدى بنات عائلته تصغره بعامين. يحلم بالزواج بها و يحلم أن يكون رسامًا مشهورًا مرموقًا. كان يقضى معظم وقته فى الرسم. تأكدت أنه هو عندما إستدار و رأيت ملامح وجهه بوضوح. رغم الزحام الشديد لكن صورته هى التى تسلطت علىّ، رأيت ابنى "هانى".
انحنى العميد و أخفى وجهه فى يديه و راح يبكى مثل طفل صغير. ثم رفع رأسه بعد برهة و قال و فى عينيه بريق الفزع:
ـ لكن السلاح كان أسرع. أصابته إحدى الطلقات و سقط قتيلًا أمام عيناى.
ثم راح العميد يضرب رأسه بيده و هو يقول:
ـ قتلت ابنى بيدى... قتلت ابنى بيدى... لا أعرف... إذا كانت... المفاجأة... هى التى شلت يداى و جعلت اصبعى ضاغطًا على الزناد... أو ... ربما... يكون السلاح أسرع منى...
نظر إليه النقيب "عماد" فى فزع. العميد قتل ابنه. من أجل من؟ و لماذا؟ لكن تكسير الأوامر العسكرية خيانة للوطن. لا يوجد ما هو أبشع من خيانة الوطن. تذكر كلمة والده عندما أخبره برغبته فى الالتحاق بكلية الشرطة لأن ضباط الشرطة هم سادة المجتمع. و أكد على ذلك بأنهم، فى الماضى، كانوا لا يقبلون إلا أولاد البشاوات. فى هذا اليوم، قال له والده: أنت لا تعرف معنى كلمة "وطن". ماذا تعنى كلمة "وطن"؟ هل الوطن هو الذى طالب الأب بقتل ابنه؟ مستحيل!
حاول استعادة هدوئه بصعوبة ثم سأل:
ـ و لماذا أتيت إلى هنا؟
قال العميد:
ـ بعد أن... رأيت... الدماء... تنفجر من صدر ابنى الوحيد... تركت السلاح و اتجهت إلى المنزل. سألتنى زوجتى عما حدث. أخبرتها بأننى قتلت ابنى بيدى. انهارت فوق المقعد صامتة فى ذهول. ثم جرت و ألقت بنفسها من الشرفة. كان بمقدورى منعها. لكنى أنا أيضًا كنت مذهولًا أكثر منها. أنا الذى قتلته. خرجت إلى الشارع أهيم على وجهى. بعض الناس عاونونى على تبديل الملابس العسكرية بهذا الجلباب. فعلوا ذلك و أنا أقف بينهم مسلوب الإرادة. ثم تركونى، خرجت أكمل سيرى. عندما وصلت إلى هنا اكتشفت أننى خرجت إلى الطريق الصحراوى و سرت لمسافة أكثر من مائة كيلو متر دون أن أشعر. تلقفنى الأهالى هنا، حاولوا معرفة شخصيتى و حكايتى. لكنى لم أقل كلمة واحدة. فى البداية استضافونى فى منازلهم و أتوا لى بالطعام. ثم بنوا لى هذا الكوخ و طلبوا منى شراء السمك من الصيادين ثم بيعه. يصفونى بأننى رجل مبروك. قل لى يا بنى، على حسب القانون، ما عقوبة من يقتل ابنه؟
ابتسم النقيب ساخرًا ثم سأل:
ـ هل تعلم أين يوجد "مبارك" الآن؟
أجاب العميد فى إصرار:
ـ لا أريد أن أعلم.
ـ يجب أن تعلم.
قال العميد ساخرًا:
ـ بعد أن وصلت إلى رتبة عميد و أصبحت على وشك رتبة لواء، اكتشفت أننى لا أعلم شيئًا. و لا أريد أن أعلم شيئًا.
التفت النقيب إلى الترعة يتأمل المياه و يفكر فيما حدث. لا شك أبدًا فى ضخامة الكارثة. بدون شك، لا يستطيع أب فى هذه الدنيا تحمل مثل هذه الكارثة. لكن... كيف يترك العميد "وليد البهنساوى"، الأب الروحى الذى علمه الانضباط العسكرى، علّمه القانون، علّمه الصلابة و القوة، علّمه أن ضابط الشرطة مخلوق من الحديد الصلب، كيف يترك الأب الروحى منهارًا بهذا الشكل؟
فى هذه اللحظة، تذكر "شاهيناز". إنه لا يفكر بها لنفسه الآن. لكن من أجل إنقاذ العميد. بالتأكيد وسيلة حقيرة قذرة. قد تقبل و قد ترفض. لكن لا بد من فعل أى شىء فى هذه الدنيا من أجل إنقاذ العميد. ما أن ذكر اسمها حتى نظر إليه العميد فى ثبات كأنه يقرأ أفكاره ثم قال بصوت قوى أجش:
ـ احذر سحر السلطة.
ـ إنها تبحث عنك مثلى.
ـ إن كنت تبحث عنى طلبًا للنصيحة فهذه هى نصيحتى: احذر سحر السلطة.
غضّ النقيب بصره ثم سأل:
ـ ألن تعود معى الآن؟
قال العميد فى قوة و عناد:
ـ لن أترك هذا المكان و لا تقل أنك رأيتنى.
العناد واضح فى عينيه و هو يعلم جيدًا مدى عناد هذا الرجل فقال مضطرًا:
ـ موافق، لكن اسمح لى بزيارتك من حين لآخر.
ـ موافق.
انصرف النقيب "عماد" مضطرًا. فى اليوم التالى، بعد انتهاء العمل ذهب لزيارته فلم يجده. بحث عنه بطول ترعة النصر من الجانبين دون جدوى. فى اليوم التالى طلب إجازة و ذهب لزيارته فى الصباح. لكن العميد "البهنساوى" تبخر، كأنه سراب، كأنه شبح من الماضى.
عاد إلى منزله منهكًا خائر القوة. عندما توفى والده اعتبر العميد والده. و الآن أصبح يتيم الأب بينما هو فى أمس الحاجة إلى الأب.
أدار جهاز الكمبيوتر على أغنية "إزاى". ظل يكرر و يعيد الأغنية، يردد وراء "محمد منير". لا يعلم مقدار الوقت الذى مضى لكنه سمع آذان الفجر.
أثناء طفولته، كان يصلى. تعلم الصلاة من والده. و عندما اعتملت بداخله هرمونات الذكورة هجر الصلاة إلى اليوم. هب و اغتسل و توضأ و صلى الفجر. و هو ساجد راح يبكى بشدة. "إزاى" "صابرين" تقبع خائفة مرتجفة فى حجرتها؟ هناك خلل، خلل فادح و يجب تداركه فى أسرع وقت، و بمنتهى الحسم. فكر فى الصعود إليها الآن. لكنها نائمة بلا شك. تعانى الكوابيس. أجّل الفكرة قليلًا. جلس فى الشرفة يرقب حركة الترام مثلما كان يرقبها و هو طفل. لمح والد "صابرين " خارجًا من باب العمارة. بقدر ما يحب "صابرين" بقدر ما يكره هذا الرجل الذى يدعى الإيمان بينما قلبه مفعم بالحقد.
بدّل ثيابه، حلق ذقنه و تعطر. ثم صعد إلى "صابرين " بخطوات ثابتة عنيدة. لم يلق السلام على والدتها، اتجه إلى حجرتها مباشرة. قال محاولًا الابتسام بينما كل عضلات وجهه تتشنج:
ـ الجو حار، ستخرجين معى الآن لشراء الآيس كريم.
انكمشت الجميلة فى ركن الفراش و صرخت، فقال فى عناد و هو يخبط يده فى الجدار:
ـ ستخرجين معى الآن.
اشتد صراخ الجميلة فى فزع. وصل صراخها إلى "نهال" التى صعدت بسرعة. حاولت تهدأته و تأجيل هذه الخطوة لمدة يومين لكنه قال فى إصرار و عناد: قلت الآن.
شعر الجميع بمدى إصراره و عناده، راحت الأم و "نهال " يعاونان الجميلة على تبديل ثيابها و هى تتلوى و تصرخ. قبض على يدها بقوة بينما "نهال" تقبض على اليد الأخرى فى حنو بالغ.
خرج الثلاثة من باب العمارة. تعثرت الجميلة و سقطت على الأرض فى هلع. تعاون النقيب مع "نهال" لإيقافها على قدميها. سارت الجميلة وسطهم مرتجفة. بعد عدة محاولات فاشلة، بعد عدة عثرات، قدمت النقود بيد مرتجفة إلى البائع. نظرات البائع الطيبة أعادت إليها الهدوء فراحت تلتهم الآيس كريم.
تمت بحمد الله.
حسام أبو سعدة.
26 / 9/ 2014
hossamaboseda@gmail.com
Image may contain: mountain, nature and outdoor

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق