إزْ يـّكْ يا واد ، بقلم : خالد سليمان
****************************************************************
كلمات تنتظرها روحي على رصيف العمر ، أنظر كلّ يوم على محيط أوله عندي وآخره عنده ؛ علّني أستمع مرّة منه هذه الكلمات ، غاب عنّي وغبت عنه ، ولكن له الحضور الرائع في نفسي وقلبي .
كان يحييني كلّما رآني بهذه التحيّة ( إزيك يا واد ) ، وكانت حروفها سحابة تمطرني شهدا وعطرا ، وتشعرني أنّني لست في قلبه فقط ، بل في قلوب الناس كلهم .
( إزيك يا واد ) أحلى كلمة أحبّها في لهجتنا العامية ، فقد كان كلّما رآني ؛ تهلّلت أسارير وجهه ، وغابت عيناه وسط جبال تجاعيده من الابتهاج والفرح .
إنّه أستاذي ووالدي وأخي وطفلي الجميل (سيف) ، التقينا على موعد في بلاد الاغتراب ، كان رسّاما ومبدعا ، وكان معتزّا بنفسه لدرجة غرور الغرور ، وكنت أتجنّبه ؛ لما سمعت عنه من حدّة لسانه وارتفاع صوته وعصبيّته .
وكنت أعرف قدري وحجمي تماما ؛ فلا أتعالى ولا أغترّ ، ولا أتحدّث إلا بما أعرف ، وكانت الابتسامة البلاستيكيّة الهشّة تأخذ مكانها على شفتيّ بصعوبة بالغة ؛ لأنّها لم تكن تخرج من قلبي إلا لمن أحبوني وأحببتهم ، وهو ممن حذروني من مناقشته أو الاختلاف معه .
كان رقيق الإحساس ، كأنّه فراشة ملوّنة أعشق رؤيتها كلّ ربيع ، أو كأنّه عطري المفضّل (بلو) الأزرق ، وكان في غضبه كأنّه شلالات نياجرا .
في بداية علاقتنا عرفته اسما فقط ، ولم أعرف ملامحه إلا بعد أحد العروض الفنيّة لي في قاعة المسرح المدرسي بالمدرسة الثانوية ، صفّق الحاضرون باهتمام ، وكان عددهم كثيرا ، وكان العرض الفنّي بعنوان ( لمسات خالديّة ) .
صفّق الحاضرون ، وذهب نصفهم إلى المائدة المفتوحة الفاخرة والمزدحمة بأطايب الطعام ، والنصف الباقي سلّم عليّ سريعا ، وعانقني القليل القليل الذين تذوّقوا لوحاتي وانصرفوا ، ولم يبق معي سوى سبعة أو ثمانية ممن أعرفهم ، وكان هو بينهم ، وإذا بابتسامته تمتدّ لتملأ شرق العالم وغربه ، وتقدّم ليسلّم عليّ بيد ناعمة طفوليّة وهنا رحّبت به ، وهنا قلت : ومن الأخ الفاضل ؟ !
قال بسرعة لم أتوقعها : سيف الأستاذ سيف ، وهنا قلت : أهلا بأستاذنا الرقيق الرائع ، وهنا قال لي بلهجته الرقيقة : إيه ده يا واد ده احنا نروّح بيوتنا وأنت تاخد مكاننا .
فقلت : وكيف ذلك ؟ وأنت أستاذ الأساتذة في الفن والذوق وبرامج الكومبيوتر الفنيّة ؟
وهنا قال بلهجة رقيقة : كل ده تعرفه عنّي ولم نلتق إلا الآن ، لازم تزورني .
فقلت : هذا شرف لي .
وهنا شعرت أنّي أطير فوق سحاب الدنيا كلّها , ودار حوار طويل عن الفنّ وعن لمساتي الرقيقة على حد قوله التي أعجب بها جدا ، وهو يناقشني ، وكنت لا أملك إلا القليل من لغة الفنّ .
ودار الحوار بيننا كأنّنا نعرف بعض من أعوام ، وحاولت أن أنهي الحوار معه ؛ لأتجنّب ما حذّرني منه الأصدقاء ، وإذا به يقول لي : متى ستزورني ؟
ففرحت جدا ، وقلت : وقتما تريد .
فقال : جرى إيه يا واد ، عامة بيتي وقلبي مفتوحان لك .
وأسعدتني تلك الكلمات جدا ، وعشنا أياما رائعة سعيدة ، لم تدم طويلا ، وجاءت لحظة الفراق ، على وعد أن نلتقي في مصر ونتبادل الزيارات ، ولكن حتى الآن لم نلتق
أحقا لن تجمعنا لقاءات أخرى؟
أحقا ستطوينا دفاتر الغياب ، ويكون الحديث عنّا نوع من ألوان الماضي .
ومضت الأيّام ، وأنا مازلت أنتظر اليوم الذي لا يأتي أقول : سيأتيني أستاذي سيف غدا ،
ويأتي الغد فأقول لنفسي : غدا ، ولكنّ غدا لا يأتي أبدا .
أوقفت ساعة ذكرياتي الحزينة عند آخر محطّات الوداع بيننا ، أتلهف أن أراه ، وأغيب أغيب في حضنه لأنّه ميناء روحي المتمرّدة ، وأمنّي نفسي بلقاء روحي بيننا إلا أن تلتقي الأجساد ولكن ترى هل سنلتقي ؟
ربّما نلتقي ولكن قد لا نلتقي ويكفي أن روحي تفارقني كلّ يوم لتبيت في مأواها ، تأتي لتقبّل يديك وتبيت في حضنك الأبوي .
هل سيأتي اليوم الذي نلتقي فيه معا ؟
لقد عدت إلى هنا ؛ لأعيش اغترابا جديدا ، ويكفي أنني كنت أعد نفسي أنّني سأكون أقرب إليك طالما أنّني في مصر ، ولكن يبدو أنّنا ابتعدنا رغما عنّا ،
لقد اشتقت إليك
ترى هل أراك مرة أخرى ؟
كم أنت مؤلم أيّها الغياب ؟
كنّا معا ، والآن يقتلني سكّين الفراق ألف مرّة في كلّ لحظة
كلّ ما أعرفه ، أنّني كلّ يوم ، أنظر من شرفتي ؛ أنتظر الآتي ولا يأتي ولا أملك إلا أن أقول :
أحترف الحزن والانتظار أنتظر الآتي ولا يأتي
لا أملك يا أستاذي الحبيب ، سوى الغد الجميل الذي تشرق فيه بملامحك عليّ وعلى حياتي
ربما لا أستطيع أن أقول لك : إزيك يا واد ، كما تشتاق روحي لسماعها ولكن أستطيع أن أقول : وحشتني كلمتك لي : إزيك يا واد
ترى هل سأسمعها منك مرّة أخرى ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
خالد سليمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق