الخميس، 17 أغسطس 2017

عــــذارى الــــــذرة . من أساطير الهنود الحمر.ترجمة: حسام أبو سعدة ــ دار مشارق.

عــــذارى الــــــذرة .
من أساطير الهنود الحمر.
بالنسبة لهنود " بابلو" الذرة ليس مجرد محصول. بل يمتلك قدرات خارقة. كوز الذرة وهو يحمل الحبوب رمز للكاهن الكبير أو قائد المهرجان. أما الكوز الخالى من الحبوب هو القربان الأساسى الذى يقدم إلى الهيكل. دقيق الذرة يُستخدم لدهن الكاهن الكبير وبقية الأشياء المقدسة كما يُستخدم لتطهير الطريق إلى " كيفا "، و يُستخدم أيضًا لمباركة الحقول والمواليد.
فى بداية الخلق، لم يكن هناك سوى الأعشاب البرية التى تغطى الأرض. و إضطر الإنسان للغذاء عليها لكنها لم تكن تُشبع أبدًا. لجأ الناس إلى الشمس يطلبون محصولًا آخر. أقاموا النيران و قدموا أفضل ما يملكون قربانًا. إستجابت الشمس لصلواتهم و دعواتهم فأرسلت لهم ست أخوات ينتمين إلى قوم الحبوب. إنهن عذارى الذرة.
عذارى الذرة يرتدين عباءات تتموج بألوان قوس القزح. رقص الأخوات فى الحقول تحت ضوء النيران. و أثناء رقصهن نمت نباتات غريبة جديدة، نباتات لها سيقان تنتهى بشرابة، أوراقها طويلة لها زغب. بأصابعهن الرقيقة لمسن أحد النباتات فأصبحت النيران صفراء. ثم لمسن نباتًا ثانيًا فاشتعلت النيران باللون الأزرق. و عندما لمسن النبات الثالث أصبحت النيران حمراء. و عند لمسهن النبات الرابع تحولت النيران إلى اللون الأبيض الزاهى. و مع لمسهن النبات الخامس تلألأت النيران بألوان كثيرة. و عندما لمسن النبات السادس خمدت النيران و لم يبقى منها إلا رماد داكن اللون. هكذا خلق عذارى الذرة ستة أنواع من الذرة المعروفة عند هنود "بابلو": الأصفر، الأزرق، الأحمر، الأبيض، المزركش و الأسود.
عاش عذارى الذرة كثيرًا بين الناس، يتمتعن بالحب و الإحترام لعملهن الهام. الناس يعلمون أن النبات لا ينمو إلا مع رقصهن، و ذلك يتم بمعاونة "وانامى" إله المطر، فيجنون فى النهاية محصولًا وافرًا.
ثم أتى وقت، و أهمل الناس العذارى، و أهملوا رعاية الأرض، لا يجمعون المحصول بعناية مثلما كانوا يفعلون فى الماضى . لم يعودوا يخزنوه تخزينًا جيدًا نظيفًا. بل العكس. أهملوا الزراعة و الجمع و التخزين حتى أصبحت حبات الذرة تتناثر فى الحقول و الطرقات فتلتهمها الطيور و الحيوانات. أصبحوا يطحنون كميات ضخمة من الذرة أكثر من حاجتهم حتى أصبحوا يملأون الحقائب بالذرة و يلعبون بها الكرة.
جرح هذا كبرياء عذارى الذرة، رحن يلمن الناس. لكن الناس لم تهتم بالشكوى بل تعاملوا معهن ببرود. فى النهاية قالت أكبر الأخوات لأخواتها:
- آن الأوان لنرحل. الناس لم تعد تحترمنا. يجب أن نرحل بعيدًا حتى يعلموا قدرنا.
إرتدين العباءات البيضاء. رحلن فى الصباح الباكر و اختفين وسط الضباب. تقودهن أختهن الكبيرة التى تمثل الذرة الصفراء بينما أختهن الصغرى التى تمثل الذرة السوداء تسير فى الخلف لتمسح آثار أقدامهن حتى لا يعرف أحد مكانهم.
اتجهن إلى الشمال إلى أن وصلن إلى بلاد "كاتشينا"، حيث استقبلهـــن الزعيـــــم "بوتيوا". إشتكى له العذارى من جحود البشر. إستمع "بوتيوا" بانتباه، فكر قليلًا ثم قال بهدؤ:
- من القسوة أن تهملن البشر إلى الأبد. لكن يجب عقابهم حتى يعلموا قدركم. سأخبئكم فى مكان حتى يثوبوا إلى رشدهم.
قادهن "بوتيوا" إلى بحيرة، و هناك تحول إلى بط ضخم أبيض مثل الجليد. أخذهن فوق جناحيه و غاص بهن إلى أعماق البحيرة.
فى البداية، لم يلحظ الناس اختفاء العذارى. الذرة تنمو بوفرة حتى أنهم إعتقدوا أنهم يستطيعون الحياة بدون العذارى. ظل الناس يسرفون فى استخدام المخزون و عندما أتى موسم الزراعة لم يجدوا فى المخازن إلا حبوب قليلة.
أعدوا الأرض و بذروا الحبوب. الشمس تتلألأ و الأمطار تسقط و مع ذلك الذرة لا يزهر. الكيزان القليلة التى جمعوها كانت ضعيفة و حبوبها صلبة.
عام وراء عام نفد المخزون، يزرعون الحبوب القليلة المتاحة. جفاف المحصول و صلابته أصاب الصغار بالمرض.
أصبحت المخازن خاوية. أصبح الناس على وشك الموت جوعًا. راحوا يبحثون فى المخازن عن أى حبة ذرة منسية دون جدوى. إضطروا إلى العودة إلى أكل الأعشاب البرية و سيقان الصبارات. لكن حتى هذا الغذاء عديم الجدوى نفد هو الآخر.
فى النهاية، طلب الكهنة الذين يقودون الشباب فى الحرب و حماية القرية عقد إجتماع. قالــــــوا للنــــاس:
- بسبب كبرياؤنا المجنون هرب الذرة من بين أيدينا. أبنائنا يموتون من الجوع. يجب البحث عن العذارى و التوسل إليهن حتى يعدن. من يقول إلى أين نذهب؟
طلبوا المعونة من النسر بعد أن شرحوا له معاناتهم فقال:
- معاناتكم يجب أن يكون لها نهاية . سأجد لكم العذارى قبل غروب الشمس. نظرى ثاقب و لا يستطيع أحد الإفلات منى.
طار النسر فوق السحاب، جاب جميع أنحاء الأرض، الشمال و الجنوب، الشرق و الغرب. حلق فوق سلاسل الجبال و الغابات و عاد فى المساء.
الناس يرقبون جناحيه و هو يهبط متجهًا إليهم. بالرغم من وعوده لم يكن لديه أى معلومات، لم يعثر لهن على أى أثر، قال:
- بحثت عنهن فى كل مكان دون جدوى. إنهن مختبئات فى قرار مكين. أخى الصغير الصقر، لا يملك قوتى و يطير بالقرب من الأرض. ربما يستطيع مساعدتكم.
عندما أخبروا الصقر بما حدث قال لهم:
- أخى النسر لم يستطع فعل شىء لأنه يحلق فوق السحاب و يتوقع أنه بذلك يرى من يختبئ فى الغابات و الأركان المظلمة. كان يجب أن تطلبوا مساعدتى من البداية. الفأر الصغير لا يفلت من عينيى أبدًا.
حلق الصقر فوق الغابات، بحث بين الأشجار، بحث بين الصخور، ثم عاد يقولون لهم:
- عذارى الذرة إختفين تمامًا، ربما لن يعدن أبدًا.
ذهب الكهنة يطلبون المعاونة الأخيرة من الغراب. بعد أن استمع إليهم ضحك و برقت عينيه ببريق خاطف ثم قال:
- أنتم أغبياء. هل تتوقعون أن العذارى يختفين فى قمم الجبال أو تحت الأشجار؟ هل نسيتم أن الموسيقى هى التى جذبت العذارى إلى الحقول؟ الوحيد القادر على فعل ذلك هو "باياتوما".
قال الغراب ذلك ثم طار و راح الرجال يتبادلون النظرات ثم هتفوا فى نفس واحد: "باياتومـــــــا"!
"باياتوما" هو الذى يأتى بالفجر محملًا بقطرات الندى التى تعيد للأرض نضارتها و خضرتها. يسكن فى كهف بعيد بين الصخور و المياه المتدفقة. ما أن إقترب الكهنة من كهفه حتى سمعوا هدير المياه و صوت الموسيقى.
كان الضباب ينتشر على مدخل الكهف و يعكس ألوان قوس القزح . أما فى الداخل، يجلس "باياتوما" يعزف على الناى، و على رأسه تاجًا من الزهور. تحت تأثير الموسيقى أتت الفراشات بألوان مختلفة تحلق فوق رأسه . قال له كبير الكهنة:
- ساعدنا يا "باياتوما" أنت الذى يأتى بالفجر. عذارى الذرة هجرننا و أخذن معهن الذرة. إذا لم تستطع إعادتهن إلينا سنموت من الجوع.
ضحك "باياتوما" ثم قال:
- عذارى الذرة لا يقاومن أبدًا ألحانى. أيا كان مخبأهم سآتى بهن و سيعدن معكم.
أتى "باياتوما" بأربعة عصيان خاصة بالصلاة. صبغ كل واحدة منهن بلون مختلف: الأصفر، الأزرق، الأبيض و الأحمر. ثم زين العصيان بقطع من لحوم النسر. إتجه إلى الشرق و غرس العصا الصفراء فى الأرض. تحركت قطعة اللحم قليلًا ثم ثبتت فى مكانها. غرس العصا البيضاء فى الشمال، و الزرقاء فى الغرب، و الحمراء فى الجنوب. بعد أن ثبتت قطع اللحوم فى مكانها، راحت تتأرجح من الأمام إلى الخلف. راح "باياتوما" يرقب حركة اللحوم ثم قال:
- سأتجه إلى الشمال. عذارى الذرة يختفين هناك. أنفاسهن حركت قطع اللحوم.
ثم راح يعزف على الناى و يرحل نحو الشمال. الأزهار تتفتح حوله، الفراشات تحوم فوق رأسه. وصلت الموسيقى عبر الهواء إلى البحيرة حيث ينام العذارى يتأرجحن على ريش "بوتيوا" الأبيض. إستيقظن، رفع "بوتيوا" جناحيه و وضعهن على شاطئ البحيرة. إقترب "باياتوما" منهن و قال:
- جئت لأبحث عنكن. الناس فى حاجة إليكن. عرفوا قدركن و يطلبون السماح.
إلتفت الأخوات إلى "بوتيوا" الذى يحميهن. كان قد هجر شكل الطائر، يقف أمامهن يتلألأ بثيابه القطنية البيضاء الفاخرة. قال لهن:
- يجب العودة. سآتى معكن.
قادهن "باياتوما" إلى القرية حيث ينتظر القوم متأرجحين بين اليأس و الأمل. يتبعهن "بوتيوا" حاملًا سلة بها دقيق الذرة و إناء ملئ بمياه البحيرة الطاهرة.
وصل الموكب إلى "كيفا" حيث ينتظرهم كهنة القرية. وزع "بوتيوا" دقيق الذرة فى المكان ليطهره ثم وضع الإناء أمام الهيكل و هو يقول:
- آتيت لكم بالماء المقدس. عندما تبذرون الحبوب ستأتى الأمطار لمباركة محصولكم.
أخذ "باياتوما" الناى و راح يعزف طوال النهار و العذارى يرقصن فى الحقول، و الناس يبكون من الفرح و السعادة.
فى نهاية النهار، صمت الناى و إنتهى الرقص. ثم تقدمت كل واحدة من العذارى تضع طبقًا مليئًا بحبوب الذرة، حسب لونها، أمام الهيكل. ثم إختفين فى الظلام. وضع "باياتوما" الناى بجوار الأطباق ثم قال:
- لا أستطيع الحياة بينكم، سأترك لكم الناى الذى يحمل سر ألحانى. هكذا تستطيعون العزف حتى يرقص عذارى الذرة .
قال ذلك ثم إختفى فى الظلام. لم يبقى سوى "بوتيوا" الذى لاحظ أن الجميع يبحث عن العذارى فقال لهم:
- لا تقلقوا. العذارى لم يهربن. لكن من الآن فصاعدًا سأصبح أنا و هن خافين عنكم. ستختارون من بينكم من يمثلنا، هكذا سيظل العذارى حولكم يباركن المحصول.
ظل "بوتيوا" طوال الليل يعلم الناس الطقوس و الأناشيد و رقصات العذارى. إستمع الجميع بانتباه شديد، ثم وعدوا بالمحافظة على هذه الطقوس إلى الأبد.
فى الفجر، وقف "بوتيوا" و قال:
- إفعلوا ما علمتكم و ستحل البركة بمحصولكم.
قال ذلك ثم إختفى فى الضباب .
* من كتاب "أساطير الهنود الحمر" ــ ماريون وود ــ ترجمة: حسام أبو سعدة ــ دار مشارق.
حسام أبو سعدة.
hossamaboseda@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق