من خلف الضّباب ( الجزء الأوّل)
جمال ذلك اليوم البعيد، وألمه، لا زالا يسكناني ويطوفان بشواطئ ذاكرتي، من سنوات. كنت قد وصلت باكراً من مدينتي النّائمة، كحلوة نسيها الزّمان، على سفح جبل أجرد بفعل أناس أتوا من فقر ريفهم بأغناهم فأكلت الأخضر واليابس. قصدّت العاصمة لإجراء اختبار شفاهيّ، بعد نجاحي في الاختبار الكتابيّ، والّذي سيمكّنني إن اجتزته من الدّراسة في معهد للتّربية المختصّة. كانت الدّفعة الأولى لهذا الاختصاص المستحدث ببلدي وكنّا زهاء المائة لنتنافس على أربعين موقعا.
رغم تعب السّفر، لخمس ساعات ونصف، كنت سعيدا يحضنني شوق لما هو آت في ذلك اليوم الشتويّ من شهر جانفي. المكان جميل، هادئ والضّباب يغطّي كلّ شيء. يخيّل إليك وأنت تجوبه أنّك بصدد لوحة زيتية. وأنت تخترق الضّباب بجسدك كأنّك في لحظة ولادة أو أنّ العالم سيتكشّف على أمر لا معهود بعد انجلاء الضّباب. ولكنّه ظلّ ومعه سحره وغموض ذاك اليوم.
بقينا منتظرين إلى العاشرة. وخلال ذلك أقبل البعض على البعض يتعارفون. كنّا شبّانا وشابّات من مناطق مختلفة وأعمار متقاربة، وكانت روائح عطر منبعثة من الفتيات تحيّي أنفك كلّما مررت بإحداهنّ. أمّا الشّبّان فكان أغلبهم بسجائرهم ينفثون دخانها فيختلط بالضّباب الكثيف فترتسم أقواس قزح صغيرة أمام وجوههم، وكنت منهم بسيجارتي أجوب المكان.
صدقا، أنا ما رغبت كثيرا في الأحاديث الجانبيّة كنت أحيّي وأمرّ لعلها رغبة في التّركيز أو استسلام لسحر المكان. المكان حميميّ بحديقته الصّغيرة وجدرانه البيضاء وأبوابه ونوافذه الزّرقاء. وبدا لي أنّه إحساس الجميع وهم في حركاتهم الدّائبة البطيئة بنغم ذاك الصّباح الجميل، إلاّ ثلاث فتيات انتحين ركنا مليء بالكتب في قاعة عميقة يبدوا أنّها تعدّ لتكون مكتبة. كانت الكتب ملقاة هنا وهناك على طاولات بنّية، المكان شبه مظلم، وثلاثتهنّ جالسات يتحدّثن بهمسات خافتة، بدوا لي كأنّهنّ يحضنّ بعضهنّ خشية أمر ما أو هنّ يحمين بعضهنّ. سرت نحوهنّ لا استطلاعا، فأنا في داخلي أعلم سبب عزلتهنّ، وإنّما لأبعث فيهنّ طمأنينة هنّ في حاجة لها. ثلاثتهنّ يرتدين حجاب.. والحجاب، في بلدي في تلك السّنوات، كان تهمة ومهانة. أيّام تذكّرك بمحاكم التّفتيش القروسطيّة اختلط فيها الدّينيّ بالسّياسيّ وفاحت رائحة الموت والكره البغيض من تلك السّنوات. سلّمت وجلست حذوهنّ، تجاذبنا أطراف حديث عامّ أحسست أنّه بعث فيهنّ بعض الدفء ولم يطل الحديث حتّى أطلّ مسؤول الاختبار برأسه من مكتبه. كان خماسينيّ فارع الطّول، أو لعلّي أنا رأيته كذلك مقارنة بطولي المتواضع ، و شاربان معقوفان ومعطف ثلاث أرباع شبيه معطفي.
نادى بصوت خافت ونظرة ثاقبة جاب بها في كلّ أنحاء المكان. تجمّعنا حوله، أعلمنا بكلمات مختصرات بأنّ الاختبار ستسبقه زيارة ميدانيّة لمركزين اجتماعيين مختلفين. وستتركّز على الملاحظة المجرّدة. ثمّ سبقنا بخطواته المتسارعة ونحن فرادى ومجموعات صغيرة خلفه.
(يتبع...)
رشدي سعداوي- تونس
جمال ذلك اليوم البعيد، وألمه، لا زالا يسكناني ويطوفان بشواطئ ذاكرتي، من سنوات. كنت قد وصلت باكراً من مدينتي النّائمة، كحلوة نسيها الزّمان، على سفح جبل أجرد بفعل أناس أتوا من فقر ريفهم بأغناهم فأكلت الأخضر واليابس. قصدّت العاصمة لإجراء اختبار شفاهيّ، بعد نجاحي في الاختبار الكتابيّ، والّذي سيمكّنني إن اجتزته من الدّراسة في معهد للتّربية المختصّة. كانت الدّفعة الأولى لهذا الاختصاص المستحدث ببلدي وكنّا زهاء المائة لنتنافس على أربعين موقعا.
رغم تعب السّفر، لخمس ساعات ونصف، كنت سعيدا يحضنني شوق لما هو آت في ذلك اليوم الشتويّ من شهر جانفي. المكان جميل، هادئ والضّباب يغطّي كلّ شيء. يخيّل إليك وأنت تجوبه أنّك بصدد لوحة زيتية. وأنت تخترق الضّباب بجسدك كأنّك في لحظة ولادة أو أنّ العالم سيتكشّف على أمر لا معهود بعد انجلاء الضّباب. ولكنّه ظلّ ومعه سحره وغموض ذاك اليوم.
بقينا منتظرين إلى العاشرة. وخلال ذلك أقبل البعض على البعض يتعارفون. كنّا شبّانا وشابّات من مناطق مختلفة وأعمار متقاربة، وكانت روائح عطر منبعثة من الفتيات تحيّي أنفك كلّما مررت بإحداهنّ. أمّا الشّبّان فكان أغلبهم بسجائرهم ينفثون دخانها فيختلط بالضّباب الكثيف فترتسم أقواس قزح صغيرة أمام وجوههم، وكنت منهم بسيجارتي أجوب المكان.
صدقا، أنا ما رغبت كثيرا في الأحاديث الجانبيّة كنت أحيّي وأمرّ لعلها رغبة في التّركيز أو استسلام لسحر المكان. المكان حميميّ بحديقته الصّغيرة وجدرانه البيضاء وأبوابه ونوافذه الزّرقاء. وبدا لي أنّه إحساس الجميع وهم في حركاتهم الدّائبة البطيئة بنغم ذاك الصّباح الجميل، إلاّ ثلاث فتيات انتحين ركنا مليء بالكتب في قاعة عميقة يبدوا أنّها تعدّ لتكون مكتبة. كانت الكتب ملقاة هنا وهناك على طاولات بنّية، المكان شبه مظلم، وثلاثتهنّ جالسات يتحدّثن بهمسات خافتة، بدوا لي كأنّهنّ يحضنّ بعضهنّ خشية أمر ما أو هنّ يحمين بعضهنّ. سرت نحوهنّ لا استطلاعا، فأنا في داخلي أعلم سبب عزلتهنّ، وإنّما لأبعث فيهنّ طمأنينة هنّ في حاجة لها. ثلاثتهنّ يرتدين حجاب.. والحجاب، في بلدي في تلك السّنوات، كان تهمة ومهانة. أيّام تذكّرك بمحاكم التّفتيش القروسطيّة اختلط فيها الدّينيّ بالسّياسيّ وفاحت رائحة الموت والكره البغيض من تلك السّنوات. سلّمت وجلست حذوهنّ، تجاذبنا أطراف حديث عامّ أحسست أنّه بعث فيهنّ بعض الدفء ولم يطل الحديث حتّى أطلّ مسؤول الاختبار برأسه من مكتبه. كان خماسينيّ فارع الطّول، أو لعلّي أنا رأيته كذلك مقارنة بطولي المتواضع ، و شاربان معقوفان ومعطف ثلاث أرباع شبيه معطفي.
نادى بصوت خافت ونظرة ثاقبة جاب بها في كلّ أنحاء المكان. تجمّعنا حوله، أعلمنا بكلمات مختصرات بأنّ الاختبار ستسبقه زيارة ميدانيّة لمركزين اجتماعيين مختلفين. وستتركّز على الملاحظة المجرّدة. ثمّ سبقنا بخطواته المتسارعة ونحن فرادى ومجموعات صغيرة خلفه.
(يتبع...)
رشدي سعداوي- تونس

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق