الخميس، 27 يوليو 2017

15 أكلة لحوم البشر. بقلم حسام أبو سعدة.

15 أكلة لحوم البشر.
عبر الحديقة الواسعة الأنيقة، قاده البواب إلى أحد الأركان حيث الكوخ الخشبى. إذا كان مبنى الفيلا فى غاية الفخامة و الأناقة، و إذا كانت الرفاهية الشديدة واضحة من الاعتناء بالحديقة و حمام السباحة و النباتات النادرة، إلا أن الكوخ بدائى، مصنوع من جزوع الأشجار دون تهذيب. تساءل النقيب "عماد" فى نفسه: هل الحنين إلى الطبيعة و الحياة البدائية هو نوع من الترف؟ الفقراء لا يفكرون فى مثل هذه الأشياء أبدًا. لا ينشغلون إلا بثمن رغيف الخبز و طبق الفول و أسعار المواصلات.
عندما دخل إلى الكوخ، كان الانطباع الأول هو الانبهار. بعض المقاعد مقلوبة، الوسائد على الأرضية أو ملقاة فوق المنضدة فى إهمال، زجاجات الخمر الفارغة و أنابيب الألوان متناثرة فى كل مكان. مناشف صغيرة كثيرة متسخة بالبقع الملونة. لوحات كثيرة متناثرة، بعضها مقلوب، بعضها مكفى على الجدران. صورة العميد "البهنساوى" موجودة فى عدة لوحات بأوضاع مختلفة. الفوضى فى كل المكان. و هذا على عكس الانضباط العسكرى و الصرامة و الدقة فى أدق التفاصيل.
الغريب فى الأمر أنه شعر بالارتياح لهذه الفوضى. كأن الفوضى هى الحياة و الانضباط العسكرى هو الموت. تساءل فى نفسه: هل يجب على الإنسان أن يستسلم للطبيعة و يعيش فوضويًا همجيًا؟ ربما. لكن الحياة بهذا الشكل لن تستقيم. لا بد من تنظيم العلاقات بين الناس بالقانون. لا بد من وضع كل شىء فى مكانه حتى نعثر عليه بسرعة وقت الحاجة إليه. لكن... يجب الاستسلام لفوضى الطبيعة من حين لآخر من أجل استعادة التوازن النفسى.
اندمج فى هذه الفوضى حتى أنه راح يدندن رغم أنفه أغنية "شادية" التى أصبحت تتردد الآن فى كل مكان: يا بلادى... يا بلادى... يا أحلى البلاد يا بلادى... فداكى أنا و الولاد يا بلادى...
استيقظ من هذا العالم الوردى على صوت خطوات تقترب. استعاد جهامته بسرعة و التفت ليجد أمامه "شاهيناز".
دُهش عندما رآها. شقراء، مستديرة الوجه، دقيقة الملامح، عينان فاتحتان مثل عينىّ القطة. متوسطة الطول و القوام. يبدو أنها أميرة إغريقية ساحرة. من المؤكد أنها من هذه السلالة، لقد أتى الإغريق إلى مصر بأمر من الإسكندر الأكبر الذى شيد الإسكندرية. من هنا توغلوا فى كل أرجاء البلاد. إنها حفيدتهم. بل ربما تتفوق عليهم فى الجمال، إنها نتيجة امتزاج الجمال الإغريقى الساحر و خفة ظل المصريين.
تقدمت "شاهيناز" و جلست بهدوء وهو يرنو إلى صدرها الطافح بالشباب النافر من خلال فتحة القميص، ثم قالت:
ـ البواب يقول إنك من طرف العميد "وليد".
ـ نعم.
ـ ما أخباره؟
قال و هو يتفحص ساقيها فى اشتهاء:
ـ جئت لأسألك عن أخباره.
اعتدلت فى جلستها و وضعت ساقًا فوق الأخرى و هى تقول:
ـ لا أعرف عنه شىء منذ عام تقريبًا.
قرر الهجوم ليصل إلى هدفه من أقصر الطرق فقال:
ـ زملاؤك فى الجامعة يؤكدون وجود علاقة حميمة بينكما.
قالت فى استهتار:
ـ كانت.
قال فى تحد:
ـ العميد "البهنساوى" مفقود، و ربما يكون متهمًا بقتل زوجته.
انتفضت فى مقعدها و قالت فى انزعاج:
ـ قتل زوجته؟! أنا متهمة إذن؟
ابتسم ليعيد إليها الهدوء:
ـ لا يوجد بلاغ رسمى. أنا أبحث عنه بصفة شخصية بحتة.
ـ لماذا؟
ـ لأننى أعتبره بمثابة الأب الروحى.
قالت ساخرة:
ـ الأب الروحى؟! هذا هو سيادة العميد.
ـ ماذا تقصدين؟
و راحت تقص عليه تفاصيل علاقتها مع العميد.
أول لقاء جمعهما، كان فى الاحتفال بعيد ميلاد زميلها "هانى"، ابن العميد "البهنساوى". فى هذا الحفل، كان كل المدعووين من الشباب صغار السن، يقفزون و يرقصون فى مرح و نشاط. بهرها العميد "البهنساوى" بهدوئه و صرامته، الانضباط العسكرى واضح جدًا فى كل تصرفاته و أفعاله. منذ هذا اليوم بدأت تحاول الاقتراب منه. عندما اقتربت اكتشفت قوة شخصيته و رجاحة عقله. رجل محنك خبير بكل شؤن الحياة، على عكس زملائها السفهاء.
سرعان ما بدأت فى نصب شباكها حوله. حاولت إغرائه بملابسها الساخنة، حاولت استغلال سحرها و دلالها. عندما شعر العميد بذلك صدمها قائلًا:
ـ أنا لا أصلح لشىء إلا أن أكون أبًا لك.
بالرغم من صدمتها من هذه الكلمة إلا أنها شعرت بالأمان و السكينة. أصبحت تطارده بالمكالمات التليفونية و زيارته فى المكتب. أصبحت تطلب منه الخروج معها لشراء بعض احتياجاتها. كانت تسير بجواره فخورة بوجود هذا الرجل القوى معها. عندما يدخلان إلى أى مكان، سرعان ما يقدم نفسه بثقة: عميد شرطة "وليد البهنساوى" و على الفور تشعر بتبدل معاملة الناس لها. يتعاملون معها بأدب و حذر شديد كأنها أميرة فى حراسة قائد الجند. ثم بدأت تدعوه إلى النادى. هناك شكت له من والديها المنفصلين. الوالد يعيش مع زوجة أخرى فى فرنسا و والدتها تعيش مع زوج آخر فى دبى. بقيت وحدها برفقة خادمتها فى شقة المعادى. اشترى والدها هذه الفيللا فى "العين السخنة" لقضاء أيام الإجازة القصيرة. سمح لها بتشييد هذا الكوخ ليكون مرسمًا لها. والدتها أيضًا تعود إلى مصر لقضاء الإجازة القصيرة. لكن كل منهما يتعمد أن تكون إجازته فى أيام تختلف عن إجازة الآخر. حتى فى أيام الإجازات، لا تلتقى بأى منهما إلا مرة واحدة أو مرتين. كل علاقتها بوالديها تتم عن طريق البنوك، يرسلون إليها الأموال فقط دون أى كلمة.
اقترح عليها العميد التواصل مع والديها عبر الإنترنت. تنهدت قائلة:
ـ حاولت ذلك لكنى شعرت من كلمات كل منهما أنه مشغول بحاله. فى بعض الأحيان لا يأتى الرد و أحيانًا يكون الرد عبارة عن كلمات مختصرة بعيدة عن الموضوع الذى كنت أتحدث به.
ضحك العميد مؤكدًا:
ـ إذن، كنت على حق عندما قلت إنك تبحثين عن أب.
قالت بهدوء:
ـ ربما.
ثم ضحكت فى دلال:
ـ لكن هذا يدل على ذكائك الشديد. لقد فهمتنى بسرعة.
ضحك العميد و هو يقول فى قلق:
ـ ربنا يستر.
ثم دعته إلى مرسمها فى "العين السخنة" لترسم له بعض اللوحات. هنا، فى هذه الحديقة، و على الشاطئ، اكتشفت روعة العميد. إنه رجل شديد الحساسية، محب للفنون، يتذوق الألوان، ينسجم مع الموسيقى، يعشق الحياة. لكن الانضباط العسكرى يمنعه من ذلك. لذلك قررت أنا أن أقوم بمعالجته ليستمتع بسحر الحياة.
بعد محاولات كثيرة فاشلة، استسلم بين يداى، و أنا تذوقت الحب لأول مرة فى أحضانه. أصبح يتعلل لزوجته بالمأموريات ليقضى معى هنا يومين أو ثلاثة. ننسى أنفسنا مع سحر الموسيقى و الرقص و الخمر. نندمج مع الطبيعة، و أحيانًا نذوب فى ديوان شعر.
فى ذات يوم قال إنه سيأتى الليلة و معه عشاء فاخر. كان العشاء عبارة عن الجمبرى الكبير الفاخر. إنه أغلى أنواع الجمبرى على الإطلاق. دفعنى الفضول الطبيعى لأن أسأله عن المكان الذى اشتراه منه و عن السعر. لكنه ضحك فى سخرية:
ـ أنا لا أدفع الأموال. أنا آكل فقط.
أدركت طبعًا إنه استغل نفوذه للحصول على هذه الوجبة الفاخرة. فى هذا اليوم شعرت بالنفور منه. إنه لا يعرف ثمن الأكل الذى يأكله. من المؤكد أنه يرى التجار و رجال الأعمال كلهم لصوص. كيف يتذوق الفنون بهذا الحس المرهف ثم يستغل نفوذه بهذه القسوة؟ ما ذنب الإنسان الذى يستغله؟ و ربما يكون هذا الإنسان مجرمًا وقع تحت سلطانه و هو يحاول إيجاد مخرج له مقابل هذه الوجبة. فى البداية رأيته نموذج للصرامة العسكرية و احترام القانون و لهذا أحببته. و الآن أرى قمة الاستهتار بالقانون و السخرية به.
فى هذه الليلة لم أمنحه الحب. تعللت بالمرض. لكن بعد يومين إلتمست له الأعذار. من حقه الإستمتاع بمباهج الحياة، خاصة بعد رحلة الكفاح الطويلة، لكن الراتب مهما كان لا يكفى لهذا البذخ. يجب عليه أن يعيش دون بزخ. ربما يكون هذا هو صراع الطبقات الذى يتحدثون عنه. إنه يرانى أمامه أنعم بالأموال الطائلة دون أى مجهود و هو لا يملك سوى الراتب. و لذلك عادت علاقتنا إلى سيرتها الأولى.
بعد عام و نصف تقريبًا حدثت الطامة الكبرى. قام بتوصيل تليفونه المحمول على شاشة الكمبيوتر ليعرض علىّ الفيلم الذى صوره. فى هذا الفيلم كان يقوم بتعذيب أحد الجنود، يأمر الجندى بالزحف ثم يلقى عليه المياه. بعد أن أنهى سيجارته يغرسها و هى مشتعلة فى جسده. الجندى يصرخ و يتألم و هو يسبه و يلعنه. مدة الفيلم نصف ساعة تقريبًا.
شاهدت الفيلم فى فزع ثم سألته عن سبب كل هذا التعذيب. توقعت أن يقول لى إنه جندى خائن للوطن. لكنى فوجئت به يقول فى فخر:
ـ هذا الجندى كان يعمل فى حرس الجامعة عندكم. كان يتحدث عنى و عنك بطريقة غير لائقة. لذلك قمت بنقله من حرس الجامعة ليكون تحت قيادتى.
ـ لماذا كل هذا العنف؟
أجاب فى إعتزاز:
ـ يجب أن يتأدب و يتعلم ألا يتحدث عن أسياده بهذه الطريقة.
فى هذا اليوم شعرت بالنفور و الاشمئزاز. ثرت فى وجهه. حاول تهدئتى مدعيًا إنه اضطر لذلك دفاعًا عن سمعتى و سمعته.
لكن هذه هى الضربة القاضية. اكتشفت أنه إنسان مخادع غير سوى. طردته بسرعة من الفيللا و من حياتى كلها. و لم أره حتى اليوم.
* موعدنا الخميس القادم، إن شاء الله، مع الفصل السادس عشر.
حسام أبو سعدة.
hossamaboseda@gmail.com
Image may contain: nature and outdoor

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق