13 أكلة لحوم البشر.
لا يزال الفنار معاندًا مكابرًا.. يرفض الخضوع و الاستسلام رغم الاهمال و اللامبالاة.. يرفض الانهيار أمام جبروت البحر.. رغم وجود فنار جديد مُجهز بأحدث الأجهزة إلا أنه مازال يفتخر بتاريخه القديم فى هداية السفن القديمة إلى الإسكندرية العتيقة..
يتمدد أمامه ممر خشبى صغير يصله بالأرض. الممر محطم بطريقة غريبة، يبدو أن تحطيمه بفعل فاعل من أجل منع الصيادين من الوصول إليه. لكن الصيادين يضعون أدوات الصيد فوق عوامة مطاطية و يسبحون إلى الفنار بحثًا عن الصيد الثمين، بحثًا عن لقمة العيش. هؤلاء البسطاء لا يجدون طريقًا لكسب لقمة العيش سوى الصيد، لا يعلمون أى مهنة غيرها.
من خلف الفنار، خرجت سفينة عملاقة من الميناء. قد تكون أضخم سفينة يراها فى حياته. السفينة تشق البحر فى قوة و جسارة، ثقة بلا حدود. التفت و راحت تنساب فوق سطح المياه برشاقة بلا حدود. تتجه إلى عرض البحر، تتجه إلى العالم البعيد، العالم المتحضر، و ربما إلى عالم آخر متخلف، حيث الذهب و الماس و البترول، هناك يعيش أصحاب الأرض فى جهل و تخلف و ينعم أهل الشمال بالحياة الهادئة المستقرة. ينعمون بالقانون و الكرامة الإنسانية.
جلس النقيب "عماد" يرقب السفينة مذهولًا من ضخامتها و قوتها. فى هذه اللحظة تمنى أن يكون بحارًا، بطلًا يواجه البحر بكل مخاطره، يتعلم من كل شعوب العالم. ثم التف الحلم إلى اتجاه آخر. أصبح يحلم بامتلاك يخت صغير. فى هذا اليخت، يخطف "نهال" و"صابرين" و يذهب بهما إلى جزيرة معزولة فى عرض البحر. فى هذه الجزيرة سيصبح هو الرجل الوحيد فى حياة "نهال"، هو مثال الرجولة و البطولة، لأنها لن تستطيع الحياة بدون حمايته و قوته. سيصبح هو الأب الوحيد لـ "صابرين"، يربيها كيفما يشاء و هو يلهو معها، يعتصرها فى أحضانه كيفما يحلو له. بالتأكيد ستشعر بالأمان و هى فى أحضانه، لأنه سيكون أبًا حنونًا مترفقًا بها و هو يعلمها سبل الحياة.
قبل أن تختفى السفينة العملاقة فى الأفق رأى مركب صيد صغير يقترب، لمح فوقها شاب، أسمر بالتأكيد من شمس البحر، و خشنًا بالتأكيد من ملوحة البحر. راحت مركب الصيد تقترب من الشاطئ بسرعة و قوة إلى أن قفزت فوق الرمال. هبط الصياد و راح ينتقى أسماك السردين من الشباك و يضعها فى الطاولة الخشبية. لا شك أن هذا الصياد يعيش هنا، فى أحد البيوت الخشبية الصغيرة التى خلف ظهره. بيت خشبى صغير متواضع و قارب صيد صغير. لكنه بالنسبة لزوجته مثالًا للرجولة و القوة، إنها لا تستطيع الحياة بدونه.
تحوّل الحلم من بحار إلى صاحب يخت إلى صياد. مجرد صياد بسيط يعيش هنا فى بيت خشبى صغير و بجواره "نهال". يخرج فى الصباح الباكر لمواجهة البحر و الموج و التيار و يعود آخر النهار محملًا بالرزق. قد تضطره الظروف إلى الإبحار لمدة يومين أو ثلاثة بحثًا عن الرزق فى عرض البحر، ستدعو له "نهال" بالتوفيق قبل الخروج، سيلمح فى عينيها الخوف و القلق عليه من مواجهة البحر، لكنه سيأخذها فى أحضانه و يلقنها قبلة صغيرة تعيد إليها بعض الطمأنينة. ستقبع فى البيت الخشبى الصغير تدعو له و تحلم بعودته. عندما يعود يجد اللهفة فى عينيها، ستأخذه فى أحضانها و تغرقه بحبها و شوقها. بعد بيع السمك سيأخذ ابنته "صابرين" ليشترى لها بعض الحلوى و الملابس الجديدة.
بالرغم من أنه كان يحلم كثيرًا بأن يكون ضابط شرطة لكنه اليوم يريد أن يكون أى شىء غير ضابط شرطة. يشعر أن سوء الفهم الذى بينه و بين "نهال" فى أنه ضابط شرطة. لو كان أى شىء آخر ربما سيصبح التفاهم بينهما أسهل و أفضل.
فى الأسبوع الماضى أمضى فى عمله فى مديرية الأمن أكثر من ثمانية و أربعين ساعة. كان يحلم بأن يعود ليجد فى عينيها اللهفة لكنه بدلًا من ذلك وجدها ثائرة غاضبة، قالت فى حنق:
ـ حاولنا الاتصال بك كثيرًا دون جدوى.
قال متعبًا مرهقًا:
ـ كلنا أغلقنا تليفوناتنا المحمولة بسبب ضغط العمل.
ـ لقد اتصلنا بالنجدة و الشرطة و الجيش، و لا مجيب أبدًا.
كان يعلم من خلال عمله بالهجوم الذى حدث من البلطجية فى السوق، و الناس ثائرة، يشعرون أن الشرطة أهملت فى أداء واجبها، فقال فى حدة:
ـ ماذا نفعل؟ كان هناك هجوم أكبر من ذلك على مديريات الأمن، الثوار أحاطوا مديرية الأمن و راحوا يلقون عليها بالحجارة، هل نترك المديرية؟
سألت "نهال" فى غضب:
ـ و الناس البسطاء، ماذا يفعلون؟
قال و هو يشعر بالفخر لأهمية عمله:
ـ البلطجة انتشرت فى كل مكان نتيجة لسقوط بعض أقسام الشرطة، هل تتخيلين ما يمكن حدوثه لو سقطت مديريات الأمن أيضًا؟
شعر بنيران الغضب تتطاير من عينيها و تلفح وجهه و هى تقول:
ـ هل علمت بما حدث لـ "صابرين"؟
اسم "صابرين" زلزله، التمعت عيناه و هو يسأل فى تركيز شديد عما حدث، فقالت:
ـ أصيبت بخرز الخرطوش فى رأسها.
شعر برجفة شديدة فى قلبه و هو يسأل:
ـ هل حدث لها مكروه؟
ابتسمت سعيدة بهذه المشاعر الإنسانية النبيلة ثم قالت:
ـ الطبيب يقول إن الإصابة بسيطة و ستشفى خلال أسبوع أو اثنين.
ـ و أين هى الآن؟
أجابت فى إهمال:
ـ فى شقتها مع والدتها.
راح يقفز فوق الدرج صاعدًا إلى "صابرين" و "نهال" تجرى خلفه.
كانت "صابرين" تجلس فى فراشها، حول رأسها عصابة بيضاء ملطخة ببقعة حمراء، قد تكون بقعة دم أو بقعة الدواء المطهر. اختفت خصلة شعرها الأسود الناعم التى تتساقط على جبهتها، إنه يعشق هذه الخصلة الرقيقة. اختفى ذيل الحصان الذى يدل على براءتها و طهارتها. أصبح وجهها شاحبًا أصفر بعد أن كان متوردًا بلون الوردة البلدى الحمراء. بريق عينيها الطفولى الرائع اختفى أيضًا. شعر كأن هناك وحش كاسر يحاول اختطافها من عالمها البرىء الجميل. الوحش لا يرحم رقتها أو صغر سنها. الوحش لا يرحم أحلامها الوردية الجميلة و الأمل فى الغد.
ما أن اقترب من فراشها حتى انكمشت الصغيرة داخل نفسها فى ذعر. هذا الموقف جعله يشعر بغصة فى قلبه و مرارة فى حلقه. لم يكن يتوقع أبدًا أن تخشى منه رغم حبه الشديد لها. حاول الاقتراب أكثر فصرخت و جرت تختفى خلف والدتها. طفرت الدموع من عينيه رغمًا عنه، جذبته "نهال" و هى تقوده إلى شقته بالطابق الأسفل. و ما أن دخل شقته حتى ألقى بكل ثقله على المقعد و راح يبكى بشدة مثل طفل صغير و "نهال" تربت على ظهره فى حنان بالغ.
فى اليوم التالى، اشترى قطعة الشيكولاتة و صعد إليها، لكن الصغيرة صرخت بشدة و هى تنكمش داخل نفسها فى ركن الفراش. تنظر إليه فى هلع كأنما ترى عفريتًا جبارًا يقف أمامها و يحاول افتراسها.
خرج من حجرتها بسرعة و هو يصر على إحضار الطبيب فورًا. و قال الطبيب إنه ارتجاج بسيط فى المخ لكنه سيزول سريعًا خلال بضعة أيام.
لم يكن يشعر أنه يحب "صابرين" كل هذا الحب من قبل، يشعر بأنها ابنته و هو المسؤول عنها و لا يعرف ماذا يفعل؟
كالعادة، عندما يقع فى أى مأزق، حاول الاتصال بالعميد "البهنساوى". لكن كل التليفونات ترن دون جدوى. أين ذهب هذا الرجل؟ أين ذهب هذا الوغد؟ ألا يعلم أنه فى حاجة إليه؟ ضباط الشرطة يجب أن يواجهون، لا يهربون بهذا الشكل المخزى. هذا ما تعلمه منه. حتى ابنه "هانى" اختفى. زوجته ماتت! أو قُتلت. هل من الممكن أن يكون العميد "البهنساوى" قاتلًا؟ لماذا؟ يبدو أن هذا الرجل مجرد سراب، مجرد حلم فى رأسه و لا وجود له فى الواقع.
شعرت "نهال" بحيرته و اضطرابه، طلبت منه الخروج ليجلس مع أصدقائه فى المقهى، مجالسة الأصدقاء المخلصين قد تخفف من قلقه. لكن مخاوفه نمت فى المقهى وسط الأصدقاء و الجيران. معظمهم يتهمه بأن الشرطة تخلت عن واجبها من أجل معاقبة الناس، إنهم يريدون تكفير الناس بالثورة و السعى لعودة "مبارك". التكفير بالثورة؟! مصطلح جديد لم يكن يعلمه. العميد "البهنساوى" لم يذكر له هذا المصطلح أبدًا. الناس تؤكد أن "مبارك" مازال يحكم، أو أعوانه على الأقل. ربما، كلها تخمينات و إستنتاجات و لا أحد يعلم الحقيقة. الأصدقاء يتوجهون إليه بالأسئلة و كأنه وزير الداخلية و هو لايعلم شيئًا. بعضهم يؤكد أن الحل فى الحكم المدنى. لا يعرف كيف يكون الحكم مدنيًا؟ تعلم على يد العميد "البهنساوى" أن المدنى بطبيعته ضعيف خاضع، المدنى يحتاج قوة العسكرى. ألم يقل الفلاسفة أن العدل يحتاج القوة؟ "نهال" تقول إن القوة الحقيقية فى العقل. لكن السلاح قادر على قتل العقل فى لحظة خاطفة. ما القوة؟ يبدو أن هذه الكلمة ليست بسيطة أبدًا كما كان يعرف.
و هو جالس وسط الأصدقاء و الجيران رن تليفونه. فتح التليفون و هو يقول فى هدوء:
ـ أهلاً يا "فؤاد" ...
ثم انتفض فى مقعده و هو يسأل:
ـ من؟... كيف حدث ذلك؟...
* موعدنا الخميس القادم، إن شاء الله، مع الفصل الرابع عشر.
حسام أبو سعدة.
hossamaboseda@gmail.co

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق