الخميس، 27 أبريل 2017

2 ـ أكلة لحوم البشر. بقلم حسام أبو سعدة.


2 ـ أكلة لحوم البشر.
فى الصباح، قبل أن يخرج من باب العمارة سأل النقيب عماد والدة "نهال" إن كانت تحتاج أى شىء من الخارج. عرض عليها كل خدماته. الثورة تشتعل فى كل مكان و هى تعيش وحدها مع ابنتها الوحيدة "نهال".
يعلم جيداً أن "نهال" تنظر إليه على أنه رجل فظ غليظ قاس و هو يريد أن يثبت لها عكس ذلك.
دعته الأم لتناول الشاى معها. دخل. كانت "نهال" تحتضن طفلة صغيرة فى السادسة من العمر، سألته:
ـ هل تعلم من هذه الطفلة؟
أجاب بالنفى، فقالت:
ـ إنها "صابرين" ابنة جارتنا فى الطابق الأعلى.
دُهش لبرهة. عندما تخرج فى كلية الشرطة و التحق للعمل فى القاهرة، كانت "صابرين" لا تزال رضيعة لا يتعدى عمرها بضعة شهور. الآن هى طفلة جميلة، مستديرة الوجه، بيضاء البشرة، واسعة العينين. تتساقط خصلات شعرها على جبينها بينما ذيل الحصان يتراقص خلفها فى رشاقة. رغم أنه كان يعود إلى الإسكندرية فى الإجازات الأسبوعية إلا أنه لم يكن يهتم بإقامة علاقات طيبة مع الجيران سوى "نهال" و والدتها. لذلك فوجئ بأن "صابرين" أصبحت فى هذا السن. التفتت "نهال" إلى "صابرين" و قالت لها:
ـ قولى رأيك لعمك "عماد".
انكمشت الصغيرة داخل نفسها فى خوف. إنه يتمتع بجسد رياضى ممشوق و صدر عريض، شاربه كثيف فى وجهه الأسمر و شعره قصير على حسب التقاليد العسكرية. شعرت "نهال" بخوف الطفلة فشجعتها قائلة:
ـ قولى رأيك بصراحة و لا تخافى من شىء.
قالت الطفلة فى تردد:
ـ البلطجى بطل.
ضحكت "نهال" من أعماق قلبها و ارتجف قلب النقيب "عماد" رغماً عنه. ثم سأل الطفلة عن السبب.
راحت "صابرين" تقص عليه ما حدث بالأمس. تأخرت مع والدتها فى زيارة خالتها التى تسكن بالقرب من هنا، فى الإبراهيمية. عادتا بعد موعد حظر التجول بقليل. فهمت من أحاديث الكبار مدى خوفهم و ذعرهم من انتشار البلطجية، علمت منهم أنهم هاربون من السجون. فى طريق العودة كان الشباب يقفون على نواصى الشوارع لحماية المنطقة. تقدم منهم شاب قاس يمسك فى يده شومة غليظة. ارتجفت الأم و انتقل الخوف إلى الصغيرة. أصر الشاب على اصطحابهما إلى باب البيت و هو يؤكد أن وجودهما فى الشوارع بعد الحظر خطر عليهما. التفتت "نهال" إلى النقيب "عماد" و سألته:
ـ هل تعرف من هو هذا الشاب؟
ـ من؟
ـ "نادر".
ضحك النقيب "عماد" و هو يقول فى دهشة:
ـ "نادر"؟! إنه فعلاً بلطجى.
قالت "نهال" و هى تشعر بالظفر:
ـ هذه هى الروح المصرية.
فهم ما تقصده، لكنه لا يريد التمادى معها فى مثل هذه الحوارات الآن. راح يداعب الطفلة و راحوا يضحكون جميعاً. إنها أول مرة لا يتشاجران فيها منذ سنوات طويلة. "نهال" تدرس الفلسفة و هى مقتنعة تماماً أنه من الممكن إصلاح سلوك المجرم عن طريق إصلاح فكره. المجرم عدو المجتمع لأنه يعجز عن التفاهم معه. لو تعاونا معه من أجل التفاهم و التصالح مع البسطاء من حوله سيصبح إنساناً سوياً. بينما النقيب "عماد" رجل قانون و هو يؤكد على العقاب و التعامل بغلظة مع كل شخص يخرج على القانون. سعد النقيب "عماد" كثيراً بهذه الساعة الصافية. لأول مرة أصبح يتمنى أن يكون لديه ابنة فى براءة و جمال "صابرين".
 بعد أن خرج من منزل "نهال" راح يتجول فى الشوارع تائهاً زائغ البصر. يشعر كأنه يعيش فى بلد غريب عنه. رغم أنه قضى طفولته هنا إلا أنه يرى هذه الشوارع لأول مرة فى حياته، يستكشف العالم من جديد كأنه طفل وليد. رأى إحدى عربات الجيش على قارعة الطريق. ضابط الجيش يقف فى الوسط و الناس تلتف حوله، تسأله، تستنجد به كأنه بطل عظيم. لا شك أنه بطل لأنه يؤدى واجبه فى صمود و أمانة. لا شك أن "نهال" رأت هذه التجمعات و أدركت الآن من هو البطل الحقيقى. ابتسم فى سخرية. "نادر" البلطجى الذى يعلم الجميع أنه إذا لم يجد أحداً يتشاجر معه يتشاجر مع نفسه أصبح بطلاً، بينما أصبح هو عاطلاً بلا عمل.
فى عصر نفس هذا اليوم، و هو يبدّل ثيابه إستعداداً للخروج، حاولت والدته منعه، تخشى عليه من الخروج الكثير هذه الأيام. الكثير من الجيران يعلمون أنه ضابط شرطة. الناس ساخطة ثائرة على نظام "مبارك" و الشرطة أحد الأركان الأساسية لحماية هذا النظام. لكن من المستحيل أن يقنع بالبقاء فى البيت كالنساء. يجب أن يثبت لنفسه و لـ "نهال " أنه رجل حقيقى. لقد اعتاد على الاستيقاظ المبكر و النشاط الكثيف و السهر الطويل. كيف نقنع مثل هذا الشاب الطافح بالنشاط و الحيوية بالبقاء فى البيت؟
كان يشاهد التليفزيون و هو يبدّل ثيابه. كل الناس تتابع الأخبار فى التليفزيون طوال النهار و الليل. فى هذه اللحظة أعلن "عمر سليمان" الذى تولى نائباً عن الرئيس منذ عدة أيام فقط نبأ تنحى "مبارك" عن الحكم.
انتشرت الفرحة فى قلوب الجميع، إنفجر الناس يصرخون فى فرح. أطلقت السيارات الكلاكسات فى نشوة و صخب كأنها زفة عروس على الطريقة السكندرية المعروفة. ارتجف النقيب "عماد" فى فرح ممزوج بالخوف، سعادة ممزوجة بالقلق، أمان ممزوج بالاضطراب. ما الذى سيحدث بعد ذلك؟ كيف يعيش بلد ضخم فى حجم مصر بلا رئيس، بلا حكومة؟
لم يستطع البقاء فى البيت لحظة واحدة. ارتدى بقية ثيابه بسرعة خاطفة كأنه أصابه مس من الشيطان. مثل كل السكندريين عندما يشعرون بالضيق اندفع إلى البحر. يريد أن يجرى لكنه يخشى أن يتهمه الناس بالجنون.
الزحام شديد، السيارات تصطف بجوار بعضها البعض رغم أن الطريق عريض جداً، ست حارات ثم جزيرة عريضة ثم ست حارات فى الاتجاه المعاكس. معظم السيارات تطلق نفيرها فى نشوة، معظم السيارات تلوّح بالأعلام بأحجام مختلفة. المشاة يقفون على الأرصفة يرقصون و يهتفون باسم "مصر"، يحملون أطفالهم الصغار، و الصغار يصفقون بأيديهم الصغيرة سعداء بهذا الجو البهيج.
النقيب "عماد" يريد أن ينفجر فى البكاء لكنه يخشى أن يتهمه الناس بالصبيانية. مقهى "والى" الشهير الذى كان يتلألأ بالأضواء قبل الثورة و أصبح معتماً أثناء الثورة عادت إليه الأضواء المتلألئة من جديد. جلس فى المقهى يرقب الاحتفالات. سمع الرجل الذى يجلس بجواره يقول لصديقه:
ـ لو شاهد "مبارك" مدى سعادة الناس برحيله لسقط ميتاً.
قال رجل آخر يجلس على منضدة أخرى:
ـ كيف سنعيش بلا رئيس بلا شرطة بلا قانون؟
فى هذه اللحظة رأى "صابرين" تجلس على أكتاف والدها تلوّح بالعلم المصرى. ود أن يختطفها و يعتصرها فى صدره. لكن علاقته بوالدها لا تسمح له بذلك. عندما رأى ابتسامة "صابرين" إنفجر فى البكاء رغماً عنه.
جاهد كثيراً محاولاً التحكم فى أعصابه. تذكر "هانى" ابن العميد "وليد البهنساوى". اتصل به على التليفون المحمول. التليفون يرن و لا أحد يرد.
فى طريق العودة رأى الناس ترقص و تغنى أمام مقهى "المحروسة". صرخ أحد الشباب قائلاً:
ـ أخيراً سقط آخر الفراعنة.
هنا صرخ الرجل العجوز الأشيب بقوة جبارة لا تتناسب أبداً مع شيخوخته:
ـ لا تقولوا آخر الفراعنة...
جحظت عينىّ مراهق صغير و سأل فى ذهول:
ـ لماذا يا جدى؟
صمت العجوز برهة و هو ينظر إلى عينيه حائراً ثم قال فى ألم:
ـ هل نستحق هذا الشرف؟
اندفع المراهق يحتضن العجوز بكل قوته، رفعه عن الأرض بضعة سنتيمترات. شعر العجوز بضلوعه ستتحطم بين يدىّ المراهق الفتىّ، صرخ فى ألم:
ـ اعقل يا ولد... اعقل يا ولد...
أنزل المراهق العجوز على الأرض بقوة ثم ضم قبضتىّ يديه و نفرت كل عروقه و هو يصرخ قائلاً:
ـ أنا حفيد "أحمس" و "مينااااا..."
* الفصل الثالث، الخميس القادم إن شاء الله.
حسام أبو سعدة.
hossamaboseda@gmail.com
Image may contain: mountain, nature and outdoor

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق