قصة ( لا حياة في بلادنا الا للأموات )
عرفته مشاغباً مشاكساً دائم السؤال ، يحب تقصي الحقائق واستجلاء الأمور ، لا يحب أن يبقى شيء مبهم بالنسبة له أو رؤية باب مغلق
كان متفوقاً في مدرسته وكليته ومن الأوائل على دفعته
تخرج من الجامعة ، تزوج وأنجب أطفالاً وبقي حب المعرفة هاجسه
أصبح الآن في الخمسين من عمره ، شعره أبيض ولم يبقى في فمه الكثير من الأسنان فقد قضت السجائر والقهوة على معظمها ، عيناه واسعتان تشعان صفاء ذهن متقد ، وجهه مجعد وانحناءة صغيرة رست في أعلى ظهره
كلما ذهبت لزيارته وجدته غارقا ً في مكتبته قراءة ً أو كتابة ، وسيجارته لا تنطفئ أبداً ، واذا ما خرج من منزله قصد دور النشر والصحف والمجلات أو لمقابلة أحد المتنفذين يستجديهم كي ينشر مقالاً أو قصة قصيرة في أحدى الصحف .
في احدى المرات أذكر أنه جمع أوراقاً تحت ابطه وذهب لمقابلة أحد مدراء دور النشر كي ينشر مجموعته القصصية ، فطرده المدير شر طردة وهزأه أمام الموظفين ، قصدته يومها في بيته الذي لا يبعد عن بيتي سوى بضع مترات ، قال لي بعد تنهيدة خرجت من أعماقه : آخ يا أستاذ ، أكاد أجن عندما أقرأ في الصحف مقالاً أو قصةً تخزي العيون قبل العقول ، فمعظم ما أقرأه لا يستحق النشر ويخرب عقول شبابنا وينتزع منهم احساسهم للكلمة الطيبة والهادفة ، لم أترك مجلة أو دار نشر إلا وقصدتهم كي ينشروا كتاباتي وما كنت لأفعل ذلك الا خوفاً من أن تموت أفكاري بموتي ، أريد أن أترك شيءً مفيداً يذكرني به الناس ويكون عملاً صالحاً لي عند الله ، ولكن لا نقود
اللعنة على النقود لو كان لدي نقود لنشرت كتبي دون حاجة إلى أن أتملق أحد
لدي الكثير من الأفكار التي يجب أن تصل إلى الناس ، لا بد أن تصل لا بد
لمحت بريقا ً في عينيه لم ألمحه من قبل ثم قال :
يجب أن تصل ، وستصل
في صباح اليوم التالي استيقظت على أصوات نواح وعويل يخرج من داره ، تقصيت الخبر واذا به قد توفي ، كان وقع الخبر علي كالصاعقة ، فالبارحة كنا سوية واليوم قد مات !!
خرجت في جنازته وبقيت مع أسرته طوال فترة العزاء وبعد انقضاء أسبوع ، استأذنت أسرته بأن آخذ أوراقه عليً أوفق في نشرها و ان استعصى علي الأمر سأتدبر أمر النقود ولو استلفت من أحدهم
أخذت الأوراق وقصدت دار نشر في المدينة وبينما أتحدث إلى المدير وأروي له قصة تفاجأت بصوت يأتي من خلفي وينادي باسمي وعندما التفت رأيت احد أصدقائي القدامى وفهمت منه ان موظف في نفس الدار وطمأنني بأنه سيقدم المساعدة مهما كانت وجلس وسمع بقية القصة
وكم كانت فرحتي كبيرة عندما تكلم المدير وقال : لقد تأثرت كثيراً بقصة المرحوم وسنعمل على نشر اعماله وسنبدأ بنشر القصة القصيرة أولا ثم بقية الأعمال
وبالفعل بعد فترة قصيرة نشر كتاب قصصي وفي مقدمته نبذة عن حياة المرحوم ، حاول فيها مقدم الكتاب استدرار عاطفة القراء وحقق الكتاب مبيعات عالية وعاد ببعض المال على عائلة المرحوم
وذات مساء كنت جالسا أقرأ هذا الكتاب فتذكرت آخر حديث دار بيننا فسالت من عيني دمعة على فراق ذلك الصديق الذي لم يرى أول كتبه يبصر النور ، وبقيت اقلب صفحات الكتاب واتذكر المرحوم وروحي تعتصر ألما ً ، إلى أن قطع وحدتي هذه صوت قرع الباب ، فذهبت لأفتح الباب وكم كانت دهشتي كبيرة
جحظت عيناي ، وفغرت فاهي وتسمرت في مكاني دون حراك
يا إلهي انه المرحوم
ابتسم وقال لي :
شكراً يا صديقي ، ألم أقل لك أنها ستصل ؟
فلا حياة في بلادنا إلا للأموات .
محمد فاخر دحو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق