زهرة الصحراء 3.
استيقظ فى الصباح مصدع الرأس، الألم يضرب كل أعضاء جسده. الضوء يتسلل من الشباك خافتاً صافياً، لا يجد فى نفسه أية رغبة فى مغادرة الفراش، يتمنى لو أن يظل هكذا إلى الأبد، لا يفكر فى شىء و لا يشعر بشىء، لم تعد الألحان تجيش فى صدره و تقلقه حتى تخرج إلى النور مثلما كان يحدث فى الماضى. الصحراء الصماء ليست حوله بل فى أعماقه.
عندما رفع الغطاء مكرهاً اكتشف أنه ينام بكامل ثيابه، حتى الحذاء لم يخعله، بينما فى ذراعه الأيسر كدمة زرقاء، تذكر ما حدث ليلة أمس، نظر فى المرآة فوجد حول عينيه الهالات السوداء المرهقة، بريق العينين قد انطفأ و لن يعود أبدا، تجاعيد الزمن بدأت فى الظهور رغم أن قلبه مازال ينبض بقوة و عنف. لاحظ اخضرار ذقنه فتسأل فى نفسه: أحلقها و أهذبها من أجل من؟!
اغتسل و بدل ثيابه حتى يبدو طبيعياً أمام الناس بينما رأسه تدور و أذنيه تطن، نزل ليتناول الإفطار فى ردهة الفندق بخطوات ثقيلة مترنحة، تراقص الدرج تحت قدميه فسقط صارخاً. أتى "حسين" جرياً من المطبخ و راح يعاونه على الوقوف. سوى هندامه، حاول التماسك ثم طلب القهوة. سأل "حسين" مستنكراً:
ـــ قهوة على الريق؟!
قال "محمد" بصبر نافذ:
ـــ القهوة.
صب "حسين" القهوة و هو يقول معاتباً:
ـــ ألم أنصحك بعدم التأخير فى جزيرة "فطناس"؟
سأل "محمد" متشككاً:
ـــ ماذا تقصد؟
ـــ أقصد ما رأيت.
نظر "محمد" إليه ملياً، إنه يعلم بما يحدث، هل معقول أن يكون هناك جن و عفاريت و مثل هذه الخزعبلات؟! لقد رأى الشبحين بعينيه. حقيقة لا يدرى إن كانا شبحين أم رجلين أم أنها أوهام الخمر. فقال مؤكداً لنفسه:
ـــ لقد كنت ثملاً.
ـــ ربما.
شعر "محمد" من نظرات البدوى أنه ربما يكون قد وقع فريسة لعصابة لصوص من البدو، فتسائل فى مكر:
ـــ ماذا يحدث فى جزيرة "فطناس"؟
أجاب "حسين" فى حذر:
ـــ يحدث ما رأيت.
لا بد من المواجهة، فسأل:
ـــ من هم؟
ــــ "ياسر" و "رجب".
قال "محمد" ساخراً:
ـــ تعرف أسماءهما أيضاً؟...
قال "حسين" فى صرامة بدوية:
ـــ و أعرف قصتهما.
راح "حسين" يقص عليه قصة هذين الشبحين: كان والد "ياسر" و أخيه "رجب" من أغنى أغنياء الواحة، أصحاب أرض و زرع، ابار و أموال، سلطة و جاه، الجميع يحترمهما و يهابهما، من يخرج عن طاعتهما لابد أن يُطرد من الواحة بأكملها، و الصحراء لن ترحم أبداً هذا الطريد. كان والد "ياسر" يحذره منذ نعومة أظافره من عمه، فيقول له إن عمه هو أول إنسان سيأكل أمواله و أرضه بالباطل، لابد أن تكون واعياً لحالك و مالك. قال له ذلك ثم مات تاركاً "ياسر" فى الرابعة عشر من عمره. حاول الشيخ "رجب" المحافظة على الأموال و الجاه، وضع يده على كل الأرض و الابار دون أن يبخل على "ياسر" و إخوته الصغار، لكن "ياسر" لم ينس أبداً كلمات أبيه، بعد مرور أربعين يوماً فقط على وفاة والده بدأ يطالب عمه بالأرض و الأبار، لم يجد الشيخ "رجب" فى تصرفات ابن أخيه ما ينم عن الرجولة و رجاحة العقل، فلم يأبه لطلبه، بيد أن "ياسر" عاند و كابر و بدأ يتهم عمه بسرقته فى مجالسه مع أصدقائه، و يقولون أن أم "ياسر" كانت توافق ابنها فى هذا الاتهام. عندما علم الشيخ "رجب" بذلك عاند هو الآخر حتى طرده قائلاً: ليس لك شىء عندى. حاول أهل الواحة الصلح بينهما، بينما سعى آخرون للفرقة بينهما، و اشتد النزاع. فى ذات يوم طلب "ياسر" مقابلة عمه فى جزيرة "فطناس" للتشاور فيما بينهما بعيداً عن عيون الناس، التقيا و كان كل منهما يضمر الغدر بالآخر، كان مع كل منهما مدية، فقتل كل منهما الآخر.
سأل "محمد":
ـــ هل يظهران كل يوم؟
أجاب "حسين":
ـــ ليس كل يوم. إمام المسجد يؤكد أنهما لا يظهران إلا للفاسقين فقط. لذلك علمت أنهما سيظهران لك بالأمس.
أشعل "محمد" سيجارته و هو يفكر فى هذه القصة غير مصدق ما حدث. من الواضح أن "ياسر" كان مراهقاً صغيراً، إنها مرحلة طبيعية، و الشيخ "رجب" رجل ناضج عاقل. إنها دسائس الشيطان، وسوس فى صدر كل منهما، ألا يوجد فى هذه الواحة الهادئة المسالمة من هو قادر على سلسلة هذا اللعين؟...
بعد صلاة الظهر وضع "محمد" غداءه فى السيارة منطلقاً إلى جبل الدكرور، فى الطريق رأى عيون "كليوباترا"، كما قال له "حسين" البئر ليست عميقة، صافية رائقة حتى تظهر كل تفاصيل القاع تماماً، لكنها عيون للمياه لم تنفذ منذ آلاف السنين، هذه هى المياه المعدنية الطبيعية التى يتحدثون عنها، مد يده يجسها فوجدها دافئة حانية، ملأ يديه ليتذوقها، لم يستسغها رغم كل المقالات و الكتب التى كُتبت عنها.
جلس على حافة البئر يتأمله. يشعر ببعض الارتياح لهذا التجديد الذى حدث، كان لابد من هذه الرحلة بعيداً عن صراعات القاهرة العنيفة، بدت له صورة "سلمى" فى عمق البئر، ترميه بنظراتها الحانية التى يعرفها جيداً و يشتاق إليها. ثم تبدلت نظرتها إلى عتاب، نظرات العتاب كرباج يلسعه و يؤلمه.
كانت أرملة تسعى لتربية ابنها الوحيد تربية جيدة، تحلم به رجلاً يافعاً ناجحاً، فهى تعلم جيداً قيمة العمل و طعم النجاح، لكنه لم يهتم بابنها على الإطلاق، و لا بها هى أيضاً، لا يريد غير الألحان و المجد، عندما يستعصى عليه لحن ما يستبد به القلق فيشعر بما يشعر به الرجل العقيم العاجز عن الإنجاب، يطلبها فتأتيه بخطواتها الرشيقة المفعمة بالحياة فيشعر بالسعادة، يرتمى فى أحضانها، تهدهده مثل طفل صغير، تنفخ فيه روح الفن الشفافة الصافية، ينهل من صدرها و يعب من حبها حتى يزول قلقه و يعود إليه صفاء الذهن، فيلحن و يبدع و تسعد هى بنجاحه الذى تمجده فى كل مقالاتها. عرف الجميع بحبها له. كانت سعيدة بذلك، علم الجميع باستغلاله لحبها أبشع استغلال و كان سعيداً بذلك. كثيراً ما طلبت منه الزواج لكنه لم يكن يلبى لها أى طلب.
شعر ابنها الصغير بإهمالها له، فبدأ يهمل فى دروسه، ثم بدأ يسرقها لا لشىء إلا لمجرد سرقتها، فدخلت "سلمى" فى دوامة لا تعرف منها فكاك. عندما كبر الصغير و أصبح مراهقاً فى السادسة عشر أصبح له علاقات حميمة مع أبناء الأثرياء و أصحاب النفوذ الذين يعانون إهمال أهلهم مثله، حتى فوجئت به يدمن المخدرات، فأصبح يسرقها لإشباع مزاجه بعيداً عنها، اشتدت الدوامة عنفاً حتى ذبل جمالها و غاضت ابتسامتها الصافية الحانية، فتركها و ولى هارباً بحثاً عن إشباع رجولته فى أحضان معجباته الكثيرات.
عاد "محمد" إلى سيارته منطلقاً إلى جبل "الدكرور". لم يجده جبلاً صخرياً ضخماً كما كان يتخيله، مجرد جبل صغير من الرمال الناعمة حتى أنه خشى صعوده بالسيارة. صعد إلى القمة و راح يتأمل الصحراء من حوله فى كل اتجاه. جلس يتناول غداءه و هو يفكر فى حاله، لم يجد فى نفسه أية رغبة فى الطعام، فأتى بزجاجاته و راح يأكل و هو يفكر: يريد أن يكون سعيداً و لا يعرف كيف؟ يعشق الحياة و لا يعرف كيف يحيا؟ يبحث عن الهدوء و لا يعرف له طريقاً. يتمنى الإيمان و العيش فى رضا الله و الخمور تجرى فى دمه. لماذا كتب الله على الإنسان الشقاء و البؤس؟ لقد أكد على ذلك. هو الذى خلقنا و وصف نفسه بالرحمن الرحيم.. عادت إليه الأفكار الكئيبة التى كانت تراوده فى الإسكندرية، لماذا حرم الله الانتحار؟ المنتحر لا يفعل شىء سوى أنه زهد الدنيا و يئس منها فاتجه إلى ربه الرحيم، ما الحرام فى ذلك؟ هل لابد من الاستمرار فى هذا الشقاء الذى يدفعنا إلى الانغماس فى الشهوات و الملذات حتى نموت كفاراً؟!
الدوار يصيب رأسه، أصم أذنيه بيديه، يعلم جيداً أنه يتبجح بعقله الملحد الشقى على إرادة الله. يجب إسكات هذا العقل بأى أسلوب، فراح يعب من زجاجاته، أدار المسجل بأعلى صوت و راح يرقص وحده فى الصحراء لعله يشعر بالسعادة... دارت الدنيا ترقص حوله، لم يشعر بنفسه إلا بعد أن هبط الظلام...
دلف إلى السيارة مترنحاً حتى إنه أغلق الباب على إصبعه دون أن يشعر بالألم. أدار المحرك عائداً إلى الفندق، فإذا بسيارة تضىء أضواءها المبهرة تمر من جانبه. التفت إليها، اندهش، ارتجف قلبه عندما اكتشف وجود "رشا" بجمالها الساحر الأخاذ خلف المقود، نظرت إليه بعينيها الواسعتين الفاتنتين و هى تزيح شعرها المرسل الطويل خلف ظهرها!.. معقول!.. ما الذى أتى بها إلى هنا فى هذه الساعة؟..
اندفع بسيارته يتابع أضواء سيارتها الحمراء و هو يتساءل: هل رضى الله عنه أخيراً فقرر أن يجمعهما معا فى هذه الصحراء؟.. اندفعت "رشا" بسيارتها إلى عمق الصحراء و هو خلفها يتمنى لو أنهما يتوهان معاً فى مكان بعيداً عن الناس، فيضمها إلى قلبه ليبعث فيها الحب و الحياة.
انطلقت "رشا" بسيارتها بسرعة كبيرة حتى تلاشت الأضواء الحمراء. ضغط على دواسة البنزين إلى أقصاها بحثاً عن أضواء سيارتها حوله فى كل اتجاه. اتجه يميناً فلم يجدها، يساراً فلم يجدها، قفل عائداً للخلف دون جدوى، ضغط على دواسة الفرامل بقدمه المرتعشة و انفجر فى بكاء عنيف وسط ظلام الصحراء الدامس.
شعر بشىء ما يتحرك بالقرب من السيارة، التفت فإذا بها حيوانات ضخمة لها وجه بشر ممسوخ ما بين الإنسان و القرد، أرجلها مثل أرجل الجوارح، يتقافزون حول السيارة و فوقها، ثم أهالوا عليها التراب من كل جانب.
* الفصل الرابع، الخميس القادم، إن شاء الله.
حسام أبو سعدة.
hossamaboseda@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق