القطة السوداء.
شقيقته الكبرى تستعد لإتمام زواجها خلال شهر.. تنهمك فى دراسة كتب كثيرة عن برج الحوت الذى ينتمى إليه خطيبها و كتب أخرى كثيرة عن برج الدلو الذى تنتمى هى إليه...
تحاور معها كثيرًا.. الأجرام السماوية لا علاقة لها بمصائر البشر.. لكنها تؤكد أن الكثير مما فى هذه الكتب ينطبق على الواقع.. فى بعض الأحيان يتطور الحوار إلى شجار، دون جدوى.. لكنه اليوم لا يريد مناقشتها حتى لا يثير أعصابها قبل الزواج... ألقى نظرة على المرآة ليتأكد من حسن هندامه ثم خرج حائرًا و هو يتساءل فى نفسه: كيف تكون شقيقته طبيبة مثقفة واعية و تعتقد فى مثل هذه الخرافات؟!...
وصل إلى بائع الجرائد الذى فى نهاية الشارع. وقف برهة مرتبكًا.. يشعر أن هناك عيونًا ما ترقبه.. تلفت حول نفسه.. الناس يمرون حوله مشغولين بحالهم، لا أحد يرقبه أو يلتفت إليه، فراح يتجول بعينيه على عناوين الكتب. إنقبض قلبه فى حسرة. نصف الكتب تقريبًا عن الأبراج و تأثيرها على حياة الإنسان و النصف الآخر عن الأغانى الحديثة السريعة، القليل من قصص و روايات قديمة جدًا، و لا يوجد رواية واحدة فقط تعبر عن أحلام جيله و آماله...
إستنشق نفسًا عميقًا فى ألم و هو يقول فى نفسه: أمر طبيعى، كتب تجارية لا تهدف سوى الأرباح المادية، مكانى ليس هنا...
راح يكمل طريقه بحثاً عن حلمه.. إختار طريقًا هادئًا بعيدًا عن ضجيج الأسواق.. الضوضاء تقلقه، تجعل عقله يسبح فى أفكار كثيرة هلامية.. الهدوء يعاونه على التركيز.. لا بد من التركيز.. لا بد من خطة دقيقة محكمة لتحقيق الأحلام الكبيرة...
شعر بنفس العيون المترقبة مرة أخرى.. لا أحد فى الطريق غيره.. هل يكون أحد الزملاء يحاول أن يلهيه عن حلمه بمكر و خبث... ربما...
بُهرت أنفاسه عندما وصل إلى المكتبة العامة... المكتبة التى كانت على وشك الإنهيار منذ عامين أصبحت فى غاية الأناقة و الفخامة. القاذورات التى كانت تحيطها من كل جانب تحولت إلى نخيل يعانق السماء فى كبرياء.. يبدو أن عميد الكلية كان محقًا فى إتهامهم بالضعف و التخاذل.. الأجيال السابقة كانت لا تعثر على الكتب و المراجع إلا بعد مشقة بالغة، و عندما يعثرون عليها يكون الجهل بلغات الغرب عائقًا منيعًا، فيكلفهم ذلك المزيد من السهر و الأرق. بالرغم من ذلك استطاعوا الوصول إلى أرفع المناصب العلمية. الآن ذُللت كل الصعاب.. بدأت ترجمة الكتب العلمية لينهل منها من يشاء.. ابتسم فى ارتياح عندما وصل إلى قسم الكتب المترجمة. الآلاف من الكتب على الأرفف. الأغلفة براقة زاهية الألوان تخطف الأبصار، تثير الخيال و تلهب العقل الوثاب..
إلتمعت عيناه ببريق خاطف و هو يرى نفسه عالمًا جليلًا فى الفيزياء مثل الدكتور "أحمد زويل" أو الدكتور "فاروق الباز"، يفتخر به الأصدقاء و يعتز به الأهل و الأحباب.
راح يتجول بين الأرفف.. دقات خطواته تجلجل فى المكان.. الصمت غامضًا مريبًا.. العيون مازالت ترقبه كأن هناك روح شريرة تتربص به.. إلتفت حول نفسه. إصطدام بأحد الأرفف فسقط..
هب واقفًا بسرعة و هو يمسح الدماء المتساقطة من يده اليسرى.. أصلح هندامه ثم راح يكمل بحثه فى عناد.. قرأ العناوين و الفهارس لمدة ساعات طويلة.. ضاق صدره و نفد صبره.. نصف الكتب تتحدث عن التاريخ المجيد الذى يحفظه عن ظهر قلب و النصف الآخر يتحدث عن الجنس، كل أنواع الشذوذ الجنسى فى مختلف المعتقدات الغريبة الغامضة و لا يوجد كتاب واحد فى الفيزياء..
شعر بشىء ما يتحرك خلفه.. إلتفت و راح يزيح الكتب بحرص شديد.. لا شىء.. شعر بالنظرات تأتيه من الخلف.. الأنفاس ساخنة حادة.. إلتفت فى ذعر.. قطة حالكة السواد، الجرب يصيب فرائها الناعم، تخترقه بنظراتها فى تحد و عناد.. إقشعر بدنه فى رجفات خفيفة، خفق قلبه بقوة و عنف.. حاول أن ينهرها و يخرجها من هذا المكان بيد أنها قفزت تهاجمه بوقاحة غريبة.. سقط على الأرض، قفزت القطة فوق رقبته و غرست أنيابها الحادة و راحت تمتص دمائه بشراهة...
* من مجموعتى "إنتظار".
حسام أبو سعدة.
hossamaboseda@gmail.com

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق